الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القسم الرابع : أن يكون الحل معلوما ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا فيرفع الاستصحاب ويقضى بالتحريم إذ بان لنا أن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع غالب الظن ، ومثاله أن يؤدي اجتهاده إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب غلبة الظن فتوجب تحريم شربه كما أوجبت . منع الوضوء به وكذا ، إذا قال : إن قتل زيد عمرا ، أو قتل زيد صيدا منفردا بقتله فامرأتي طالق ، فجرحه وغاب عنه فوجد ميتا حرمت زوجته ; لأن الظاهر أنه منفرد بقتله كما سبق ، وقد نص الشافعي رحمه الله أن من وجد في الغدران ماء متغيرا احتمل أن يكون تغيره بطول المكث أو بالنجاسة فيستعمله ولو رأى ظبية بالت فيه ثم وجده متغيرا ، واحتمل أن يكون بالبول أو بطول المكث لم يجز استعماله إذ صار البول المشاهد دلالة مغلبة لاحتمال النجاسة ، وهو مثال ما ذكرناه وهذا في غلبة ظن استند إلى علامة متعلقة بعين الشيء ، فأما غلبة الظن لا من جهة علامة تتعلق بعين الشيء ، فقد اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في أن أصل الحل هل يزال به إذا اختلف قوله في التوضؤ من أواني المشركين ومدمن الخمر والصلاة في المقابر المنبوشة والصلاة مع طين الشوارع أعني المقدار الزائد على ما يتعذر الاحتراز عنه وعبر الأصحاب عنه بأنه إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يعتبر ؟ وهذا جار في حل الشرب من أواني مدمن الخمر والمشركين ; لأن النجس لا يحل شربه فإذن مأخذ النجاسة والحل واحد فالتردد ، في أحدهما يوجب التردد في الآخر والذي أختاره أن الأصل هو المعتبر وأن العلامة إذا لم تتعلق بعين المتناول لم توجب رفع الأصل وسيأتي بيان ذلك وبرهانه في المثار الثاني للشبهة ، وهي شبهة الخلط ، فقد اتضح من هذا حكم حلال شك في طريان محرم عليه أو ظن وحكم حرام شك في طريان محلل عليه أو ظن وبان الفرق بين ظن يستند إلى علامة في عين الشيء وبين ما لا يستند إليه وكل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى ، والاحتياط تركه ، فالمقدم عليه لا يكون من زمرة المتقين والصالحين ، بل من زمرة العدول الذين لا يقضى في فتوى الشرع بفسقهم وعصيانهم واستحقاقهم العقوبة إلا ما ألحقناه برتبة الوسواس فإن ; الاحتراز عنه ليس من الورع أصلا .

التالي السابق


(القسم الرابع: أن يكون الحل معلوما ) من قبل، (ولكن يغلب على الظن طريان محرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعا ليرفع الاستصحاب) حينئذ (ويقضى بالتحريم إذ بان لنا) أي: ظهر (أن الاستصحاب ضعيف ولا يبقى له حكم مع غالب الظن، ومثاله أن يؤديه اجتهاده) وتحريه (إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب غلبة الظن) كقرب كلب مثلا، (فتوجب تحريم شربه كما أوجب منع الوضوء به، وكذلك إذا قال: إن قتل زيد عمرا، أو قتل زيد صيدا منفردا بقتله فامرأتي طالق، فجرحه وغاب) عمرو أو الصيد (ووجد) بعد ذلك (ميتا حرمت زوجته; لأن الظاهر أنه منفرد) في قتله (كما سبق، وقد نص الشافعي ) رحمه الله تعالى (أن من وجد في الغدران) جمع غدير وهو ما يغادره السيل من المياه في الحفر (ماء متغيرا احتمل أن يكون تغيره لطول المكث أو لنجاسة دخلت فيه أنه يستعمله) استصحابا لأصل الطهارة .

(ولو وجد ظبية بالت فيه ثم وجده متغيرا، واحتمل أن يكون تغيره بالبول) المذكور (أو بطول المكث لم يجز استعماله إذ صار البول المشاهد دلالة مغلبة لاحتمال النجاسة، وهو مثال ما ذكرنا) ، ولذا قيد في استعمال الاجتهاد عند الاشتباه أن تكون نجاسة أحدهما متيقنة بمشاهدة أو سماع من عدل، وفي المشاهدة خلاف لأبي حنيفة ، (وهذا في غلبة ظن استند إلى علامة [ ص: 40 ] متعلقة بعين الشيء، فأما غلبة الظن لا من جهة علامة تتعلق بعين الشيء، فقد اختلف قول الشافعي ) رحمه الله تعالى (في أن أصل الحل هل يزول بذلك) أم لا (إذا اختلف قوله في التوضؤ من أواني المشركين) أي: ظروفهم وهم الكفار المتدينون باستعمال النجاسة (و) أواني (مدمني الخمر) أي: المداومين على شربها، (و) كذا في (الصلاة في المقابر المنبوشة والصلاة في طين الشوارع) المسلوكة (أعني المقدار الزائد على ما يتعذر الاحتراز عنه) ، ويعسر، وفي الوجيز، وإن غلب على ظنه نجاسة أحد الإناءين بكونه من مياه مدمني الخمر، أو الكفار المتدينين باستعمال النجاسة، فهو كاستيقان النجاسة على أحد القولين، قال الشارح: الظاهر من القولين استصحاب الأصل، ثم قال: وعليه تمتنع الصلاة في المقابر المنبوشة ومع طين الشوارع، وكل ما الغالب نجاسة مثله، وقال الشربيني في شرح المنهاج، ولو غلبت النجاسة في شيء والأصل فيه طاهر كثياب مدمني الخمر، ومتدينين بالنجاسة كالمجوس ومجانين وصبيان وجزارين، حكم له بالطهارة عملا بالأصل، وكذا ما عمت به البلوى من ذلك اهـ .

(وعبر الأصحاب) أي: أصحاب الوجوه في المذهب (عنه بأنه إذا تعارض الأصل والغالب فأيهما يعتبر؟) ، فقيل: الأصل ولا عبرة بالغالب، وقيل: يعتبر الغالب، ولا يعمل بالأصل، (وهذا جار في حل الشرب من أواني مدمني الخمر والمشركين ; لأن النجس لا يحل شربه) ، فلا يحل التطهر به (فإذا مأخذ النجاسة والحل واحد، والتردد في أحدهما يوجب التردد في الآخر) ، وهكذا قال القونوي : إن الحل من لوازم الطهارة، والحرمة تتبع النجاسة، وكل من الحلال والحرام ينقسم ثلاثة أقسام كانقسام الطهارة والنجاسة إلى آخر ما ذكر، (والذي أختاره أن الأصل هو المعتبر) ، ولا عبرة للغلبة مع مخالفة الأصل (وإن العلامة إذا لم تتعلق بعين المتناول لم توجب رفع الأصل) ، وجعله الرافعي أظهر القولين، (وسيأتي بيان ذلك وبرهانه في المثار الثاني للشبهة، وهي شبهة الخلط، فقد اتضح من هذا حكم حلال شك في طريان محرم عليه أو ظن) في طريانه، (وبان) أي: ظهر (فرق بين ظن يستند إلى علامة في عين الشيء وبين ما لا يستند إلى علامة) في عين الشيء .

(وكل ما حكمنا في هذه الأقسام الأربعة بحله فهو حلال في الدرجة الأولى، والاحتياط تركه، فالمقدم عليه لا يكون في زمرة المتقين والصالحين، بل هو) معدود (من زمرة العدول الذين لا تقضي فتوى الشرع) الظاهر (بفسقهم) وعدم عدالتهم (وعصيانهم واستحقاقهم العقوبة) الأخروية (إلا ما ألحقناه برتبة الوسواس; لأن الاحتراز عنه ليس من الورع أصلا) كما تقدم .




الخدمات العلمية