الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 458 ] 474 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تعلق به قوم من أن العبد لا طلاق له .

3007 - حدثنا فهد ، قال : حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي ، قال : حدثنا معاوية بن سلام ، قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عمر بن معتب أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في رجل مملوك كانت تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ، فبانت منه ، ثم إنهما أعتقا بعد ذلك ، هل يصلح للرجل أن يخطبها ؟ فقال ابن عباس : نعم ، وقضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زعم ابن عباس .

[ ص: 459 ] قال أبو جعفر : فتأملنا هذا الحديث في إسناده لنعلم هل أبو الحسن هذا الذي دار عليه ممن يؤخذ هذا الحديث عن مثله . ؟

فوجدنا إبراهيم بن أبي داود قد حدثنا ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني أبو حسن مولى عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب ، وكان من أرضى موالي قريش ، وأهل العلم والصلاح منهم أنه سمع امرأة لعبد الله تستفتيه عن غلام لها ابن زنية في رقبة كانت عليها ، فقال لها عبد الله بن نوفل : لا أراه يقضي عنك الرقبة التي عليك عتق ابن زنية .

قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الله بن نوفل ، قال : سمعت عمر بن الخطاب : لأن أحمل على بغلين في سبيل الله - عز وجل - أحب إلي من أن أعتق ابن زنية ، وكان عبد الله بن نوفل من صلحاء المسلمين ، ومن ذوي علمهم ، وكان مروان بن الحكم جعله على القضاء في إمارته .

فوقفنا بذلك على أن أبا الحسن هذا ممن يؤخذ مثل هذا عنه ، [ ص: 460 ] ثم طلبنا هل لعمر بن معتب حال يوجب له مثل ذلك ، فلم نجدها له ، فعاد ممن لا يحتج في مثل هذا به ، ثم تأملنا متن هذا الحديث ، فوجدناه مستحيلا ؛ لأن طلاق ذلك المملوك زوجته التطليقتين اللتين كان طلقهما إياها في حال رقه ورقها لا يخلو من أحد وجهين : أن يكون عاملا ، فيكون حكمه حكم التحريم لها حتى تنكح زوجا غيره ، إذ التطليقتان يحرمانها عليه كذلك ، أو يكون غير عامل ؛ لأن طلاق المملوك ليس بشيء على ما كان عبد الله بن عباس يذهب إليه في طلاق المماليك .

كما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، والليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله ، عن بسر بن سعيد ، عن عبد الله بن عباس في عبد يزوجه سيده ، فيطلقها ، أنه لا يجوز إلا بإذن سيده ، وتلا عبد الله بن عباس : و ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، فذهبت إلى عبد الله بن عمر فسألته ، فقال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .

حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا منصور - يعني : ابن زاذان - ، عن عطاء ، [ ص: 461 ] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الأمر إلى المولى ، أذن له أم لم يأذن له ، ويتلو هذه الآية : و ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء .

وكما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أنبأنا أبو الزبير ، عن أبي معبد مولى ابن عباس أن غلاما لابن عباس طلق امرأته تطليقتين ، فقال له ابن عباس : ارجعها لا أم لك ، فإنه ليس لك من الأمر شيء ، فأبى فقال : هي لك فخذها .

قال أبو جعفر : فإن كان كذلك لم يكن لارتجاعه إياها معنى ؛ لأنها زوجته على حالها ، لم يحرمها ذلك الطلاق عليه ، وفيما ذكرنا ما قد دل على فساد هذا الحديث في إسناده وفي متنه ، وإنه مما لا يجب قبوله على عبد الله بن عباس ، ولا يلتفت إليه .

3008 - ووجدنا يحيى بن عثمان قد حدثنا ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عمر بن معتب ، عن الحسن مولى بني نوفل ، هكذا قال ، عن ابن عباس في عبد طلق امرأته اثنتين ، ثم أعتقها أيتزوجها ؟ قال : نعم ، قيل عمن ؟ قال : أفتى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 462 ]

3009 - ووجدنا محمد بن سليمان الباغندي قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا شيبان النحوي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عمر بن معتب هكذا قال : إن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس أنه استفتاه في مملوك كان تحته مملوكة ، فطلقها تطليقة فبانت منه ، ثم إنهما أعتقا بعد ذلك هل يصلح للرجل أن يخطبها ؟ قال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك ، ولم يزد على هذا شيئا .

قال أبو جعفر : فكتبناه ؛ لأن فيه أنه كان طلقها تطليقة ، ولنوقف بذلك على اضطراب هذا الحديث ، وأن لا يجوز أن يحتج به إن كان كذلك ، ثم رجعنا إلى ما روي في طلاق العبد عن غير ابن عباس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فوجدنا عبد الغني بن أبي عقيل قد حدثنا ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن محمد بن عبد الرحمن - يعني : مولى آل طلحة - ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عتبة ، قال : قال عمر رضي الله عنه : ينكح العبد اثنتين ، ويطلق اثنتين ، وتعتد الأمة حيضتين ، فإن لم تكن تحيض ، فشهر ونصف .

[ ص: 463 ]

حدثنا يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب أن نفيعا - مكاتبا لأم سلمة - طلق امرأة حرة تطليقتين ، فاستفتى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقال : حرمت عليك .

حدثنا يونس ، قال : أنبأنا ابن وهب أن مالكا أخبره ، عن أبي الزناد ، عن سليمان بن يسار أن مكاتبا كان لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عبدا ، كانت تحته امرأة حرة ، فطلقها اثنتين ، ثم أراد أن يراجعها فأمره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان بن عفان ، فيسأله عن ذلك ، فذهب إليه فلقيه عند الدرج آخذا بيد زيد بن ثابت ، فسألهما ، فابتدراه جميعا ، فقالا : حرمت عليك ، حرمت عليك .

ووجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا وهب ، قال : أخبرني يونس ، ومالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن عثمان بن عفان ، ثم ذكر مثله .

[ ص: 464 ] قال يونس : قال ابن شهاب : وأخبرني أبو سلمة عن عثمان مثله .

ووجدنا يونس قد حدثنا ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن أبي الزناد ، عن سليمان بن يسار أن نفيعا مكاتب أم سلمة ، ثم ذكر مثل حديث يونس ، عن ابن وهب ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، الذي ذكرناه في ذلك .

ووجدنا محمد بن خزيمة قد حدثنا ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : السنة بالنساء في الطلاق والعدة .

قال : فكان فيما رويناه من هذه الآثار عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، ما قد خالف ما قد رويناه عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ، وقد وجدنا عن ابن عمر أيضا في ذلك [ ص: 465 ] ما يخالف ما رويناه عن ابن عباس في ذلك .

كما قد حدثنا أحمد بن أبي عمران ، قال : حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، ( ح ) وكما حدثنا روح بن الفرج ، قال : حدثنا أبو مروان العثماني ، وكما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم ، قالوا : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه قال : أيهما رق نقص الطلاق برقه ، والعدة بعد ذلك على النساء .

وكان ما رويناه عن ابن عمر من هذا لم نجد له عليه موافقا من الصحابة ، ولا ممن بعدهم .

ثم تأملنا قول الله - عز وجل - : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، هل طلاقه من تلك المعاني التي لا يقدر عليها أم لا ؟ فوجدنا تزويج مولاه إياه يبيحه فرج من زوجه إياها ، ويكون مالكا له قادرا عليه دون مولاه ، وكان الذي لا يقدر عليه هو سوى ذلك من [ ص: 466 ] الأموال التي خولها الله الأحرار دون المماليك لا أبضاع النساء ، فلما كان حل البضع له لا لمولاه ، كان تحريم البضع أيضا له دون مولاه .

وقد روينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ناحية المدنيين في ذلك ما قد رويناه عنه في هذا الباب ، وقد روي عنه فيه أيضا من ناحية الكوفيين ما يوافق ذلك .

كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، عن ابن عون قال : سمعت أبا صالح يقول : سمعت عليا رضي الله عنه يقول ، وسئل عن رجل كانت تحته أمة فطلقها تطليقتين ، ثم اشتراها أيطؤها ؟ فأبى ذلك .

ثم رجعنا إلى طلب الأولى من الطلاق الذي جعله عمر وعلي على حكم النساء المطلقات ، وجعله عثمان وزيد على حكم الرجال المطلقين ، فوجدنا الحر قد أبيح له تزويج أربع نسوة ، وجعل له من الطلاق فيهن اثنتي عشرة تطليقة ، [ ص: 467 ] ووجدنا المملوك قد أبيح له تزويج اثنتين لا أكثر منهما .

فعقلنا بذلك إذ كان في عدد النساء على النصف مما عليه الحر في عددهن أن يكون في طلاقهن نصف ما عليه الحر في ذلك ، فيكون طلاقه لهما ست تطليقات ، فثبت بذلك ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما فيه .

ولقد كلمت أبا جعفر محمد بن العباس في هذا الباب ، وتقلدت عليه قول عثمان وزيد فيه ، فقلت له : أليس الطلاق قد وجدته يكون من الرجل ، والعدة وجدتها تكون من المرأة ؟ فمعقول في ذلك أن كل ما يكون من كل واحد منهما مرجوع فيه إلى حكمه ، فقال لي : كتاب الله يدفع ما قلت ؛ لأن الله قال : يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ، فأعلمنا الله عز وجل أن العدة للرجال لا للنساء ، وإذا كانت للرجال ، وكانت على حكم النساء ؛ لأنها تكون منهن كان الطلاق الذي يكون منهم في النساء على حكم النساء ، لا على حكمهم .

فهذه علة صحيحة ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية