الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ما تقول السادة العلماء . في واقف وقف رباطا على الصوفية وكان هذا الرباط قديما جاريا على قاعدة الصوفية في الربط : من الطعام والاجتماع بعد العصر فقط ؟ فتولى نظره شخص فاجتهد في تبطيل قاعدته وشرط على من به شروطا ليست في الرباط أصلا ثم إنهم يصلون الصلوات الخمس في هذا الرباط ويقرءون بعد الصبح قريبا من جزء ونصف وبعد العصر قريبا من ثلاثة أجزاء حتى إن أحدهم إذا غاب عن صلاة أو قراءة كتب عليه غيبة مع أن هذا الرباط لم يعرف له كتاب وقف ; ولا شرط .

                فهل يجوز إحداث هذه الشروط عليهم ؟ أم لا ؟ وهل يأثم من أحدثها أم لا ؟ وهل يحل للناظر الآن أن يكتب عليهم غيبة أم لا ؟ وهل يجب إبطال هذه الشروط أم لا ؟ وهل يثاب ولي الأمر إذا أبطلها أم لا ؟ وإذ كانت هذه الشروط قد شرطها الواقف : هل يجب الوفاء بها أم لا ؟ وما الصور في الذي يستحق ذلك ؟ وهل إذا كان في الجماعة من هو مشتغل بالعلوم الشرعية يكون أولى ممن هو مترسم برسم ظاهر لا علم عنده ؟ ومن لم يكن متأدبا [ ص: 54 ] بالآداب الشرعية هل يجوز له تناول شيء من ذلك . أم لا ؟ وإذا كان فيهم من هو مشتغل بالعلم الشريف . وله من الدنيا ما لا يقوم ببعض كفايته . هل يكون أولى ممن ليس متأدبا بالآداب الشرعية . ولا عنده شيء من العلم أفتونا مأجورين . وبينوا لنا ذلك بيانا شافيا بالدليل من الكتاب والسنة رضي الله عنكم .

                التالي السابق


                فأجاب رحمه الله لا يجوز للناظر إحداث هذه الشروط ولا غيرها فإن الناظر إنما هو منفذ لما شرطه الواقف . ليس له أن يبتدئ شروطا لم يوجبها الواقف ولا أوجبها الشارع ويأثم من أحدثها . فإنه منع المستحقين حقهم حتى يعملوا أعمالا لا تجب . ولا يحل أن يكتب على من أخل بذلك غيبة ; بل يجب إبطال هذه الشروط . ويثاب الساعي في إبطالها مبتغيا بذلك وجه الله تعالى .

                وأما الصوفي الذي يدخل في الوقف على الصوفية ; فيعتبر له ثلاثة شروط .

                أحدها : أن يكون عدلا في دينه ; يؤدي الفرائض ويجتنب المحارم .

                الثاني : أن يكون ملازما لغالب الآداب الشرعية في غالب الأوقات وإن لم تكن واجبة مثل آداب الأكل والشرب واللباس والنوم [ ص: 55 ] والسفر والركوب والصحبة والعشرة والمعاملة مع الخلق ; إلى غير ذلك من الآداب الشريفة قولا وفعلا . ولا يلتفت إلى ما أحدثه بعض المتصوفة من الآداب التي لا أصل لها في الدين ; من التزام شكل مخصوص في اللبسة ونحوها مما لا يستحب في الشريعة . فإن مبنى الآداب على اتباع السنة ولا يلتفت أيضا إلى ما يهدره بعض المتفقهة من الآداب المشروعة يعتقد - لقلة علمه - أن ذلك ليس من آداب الشريعة ; لكونه ليس فيما بلغه من العلم أو طالعه من كتبه ; بل العبرة في الآداب بما جاءت به الشريعة : قولا وفعلا وتركا ; كما أن العبرة في الفرائض والمحارم بذلك أيضا .

                والشرط الثالث في الصوفي : قناعته بالكفاف من الرزق ; بحيث لا يمسك من الدنيا ما يفضل عن حاجته ; فمن كان جامعا لفضول المال لم يكن من الصوفية الذين يقصد إجراء الأرزاق عليهم ; وإن كان قد يفسح لهم في مجرد السكنى في الربط ونحوها . فمن حمل هذه الخصال الثلاث كان من الصوفية المقصودين بالربط والوقف عليها . وما فوق هؤلاء من أرباب المقامات العلية والأحوال الزكية وذوي الحقائق الدينية والمنح الربانية : فيدخلون في العموم ; لكن لا يختص الوقف بهم لقلة هؤلاء ; ولعسر تمييز الأحوال الباطنة على غالب الخلق ; فلا يمكن ربط استحقاق الدنيا بذلك ; ولأن مثل هؤلاء قد لا ينزل الربط إلا نادرا .

                وما دون هذه الصفات من المقتصرين على مجرد رسم في لبسة أو مشية ونحو ذلك : لا يستحقون الوقف ; ولا يدخلون في مسمى الصوفية ; لا سيما [ ص: 56 ] إن كان ذلك محدثا لا أصل له في السنة ; فإن بذل المال على مثل هذه الرسوم فيه نوع من التلاعب بالدين ; وأكل لأموال الناس بالباطل وصدود عن سبيل الله .

                ومن كان من الصوفية المذكورين المستحقين فيه قدر زائد : مثل اجتهاد في نوافل العبادات ; أو سعي في تصحيح أحوال القلب ; أو طلب شيء من الأعيان ; أو علم الكفاية : فهو أولى من غيره . ومن لم يكن متأدبا بالآداب الشرعية ; فلا يستحق شيئا ألبتة ; وطالب العلم الذي ليس له تمام الكفاية : أولى ممن ليس فيه الآداب الشرعية ; ولا علم عنده ; بل مثل هذا لا يستحق شيئا .




                الخدمات العلمية