الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                      ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال : وجاء أهل المدينة يستبشرون أي أهل مدينة قوم لوط ، وهي سلوم كما سبق ، وجملة يستبشرون في محل نصب على الحال ، أي : مستبشرون بأضياف لوط طمعا في ارتكاب الفاحشة منهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فقال لهم لوط : إن هؤلاء ضيفي . وحد الضيف لأنه مصدر كما تقدم ، والمراد أضيافي ، وسماهم ضيفا لأنه رآهم على هيئة الأضياف ، وقومه رأوهم مردا حسان الوجوه ، فلذلك طمعوا فيهم فلا تفضحون يقال : فضحه يفضحه فضيحة وفضحا إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره ، والمعنى : لا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي ، أو لا تفضحون بفضيحة ضيفي ، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضح المضيف .

                                                                                                                                                                                                                                      واتقوا الله في أمرهم ولا تخزون يجوز أن تكون من الخزي : وهو الذل والهوان ، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل ، وقد تقدم تفسير ذلك في هود .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا أي قوم لوط مجيبين له أولم ننهك عن العالمين الاستفهام للإنكار ، والواو للعطف على مقدر ، أي : ألم نتقدم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة ؟ وقيل : نهوه عن ضيافة الناس ، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعم من هذين الأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوجوهن حلالا ولا تركبوا الحرام ، وقيل : أراد ببناته نساء قومه ، لكون النبي بمنزلة الأب لقومه ، وقد تقدم تفسير هذا في هود .

                                                                                                                                                                                                                                      لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون العمر والعمر بالفتح والضم واحد ، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم ، ذكر ذلك الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي عياض : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي فقال : قال المفسرون بأجمعهم : أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريفا له .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزاء : ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم البرية عنده .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن العربي : ما الذي يمنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتي ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أكرم على الله منه ، أولا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي : ما قاله حسن ، فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلاما معترضا في قصة لوط ، فإن قيل قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ، ونحو ذلك فما فيهما من فضل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلا وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه ، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه أن هذا هو من الملائكة على إرادة القول ، أي : قالت الملائكة للوط لعمرك ، ثم قال : وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله فليس لعباده أن يقسموا بغيره ، وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون [ الأنبياء : 23 ] وقيل : الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون وطور سنين والنجم والضحى والشمس والليل ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به ، أي : وخالق التين ، وكذلك ما بعده ، وفي قوله : لعمرك أي وخالق عمرك ، ومعنى إنهم لفي سكرتهم يعمهون : لفي غوايتهم يتحيرون ، جعل الغواية لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة ، والضمير لقريش على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لقوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام .

                                                                                                                                                                                                                                      فأخذتهم الصيحة العظيمة أو صيحة جبريل حال كونهم مشرقين أي داخلين في وقت الشروق ، يقال أشرقت الشمس ، أي : أضاءت وشرقت إذا طلعت ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد وأشرق القوم إذا دخلوا في وقت شروق الشمس ، وقيل : أراد شروق الفجر ، وقيل : أول العذاب كان عند شروق الفجر وامتد إلى طلوع الشمس .

                                                                                                                                                                                                                                      والصيحة : العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      فجعلنا عاليها سافلها أي عالي المدينة سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل من طين متحجر ، وقد تقدم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود .

                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك أي في المذكور من قصتهم وبيان ما أصابهم لآيات لعلامات يستدل بها للمتوسمين للمتفكرين الناظرين في الأمر ، ومنه قول زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      أوكلما وردت عكاظ قبيلة     بعثوا إلي عريفهم يتوسم

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو عبيدة : للمتبصرين ، وقال ثعلب : الواسم الناظر إليك من قرنك إلى قدمك ، والمعنى متقارب ، وأصل التوسم التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في [ ص: 767 ] جلد البعير .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنها لبسبيل مقيم يعني قرى قوم لوط أو مدينتهم على طريق ثابت ، وهي الطريق من المدينة إلى الشام فإن السالك في هذه الطريق يمر بتلك القرى .

                                                                                                                                                                                                                                      إن في ذلك المذكور من المدينة أو القرى لآية للمؤمنين يعتبرون بها فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : وجاء أهل المدينة يستبشرون قال : استبشروا بأضياف نبي الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : أولم ننهك عن العالمين قال : يقولون أولم ننهك أن تضيف أحدا أو تئويه .

                                                                                                                                                                                                                                      قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين أمرهم لوط بتزويج النساء وأراد أن يقي أضيافه ببناته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون يقول : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : لعمرك قال : لعيشك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : ما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة محمد قال لعمرك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل " لعمري " يرونه كقوله وحياتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة إنهم لفي سكرتهم يعمهون أي في ضلالهم يلعبون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية : لفي غفلتهم يترددون .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج فأخذتهم الصيحة مثل الصاعقة ، وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير عنه مشرقين قال : حين أشرقت الشمس .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في قوله : إن في ذلك لآية قال : علامة ، أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله ، فيقول هاتوا كذا وكذا ، فإذا رأوه عرفوا أنه حق .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه للمتوسمين قال : للناظرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال : للمعتبرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جريج وابن المنذر عن مجاهد قال : للمتفرسين ، وأخرج البخاري في التاريخ والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ : إن في ذلك لآيات للمتوسمين .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وإنها لبسبيل مقيم يقول لبهلاك .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لبطريق مقيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لبطريق واضح .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية