الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وأنه هو أمات وأحيا ) والبحث فيه كما في الضحك والبكاء ، غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس ، فإنه أظهر ، وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي : الموت والحياة كالضحك والبكاء ، والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتا ، وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان ، ويقول : الطبيعي في الحياة لاعتدال المزاج ، والمزاج من أركان متضادة هي النار والهواء والماء والتراب ، وهي متداعية إلى الانفكاك وما لا تركيب فيه من المتضادات لا موت له ؛ لأن المتضادات كل أحد يطلب مفارقة مجاوره ، فقال تعالى : الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك ، فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى : ( وأنه هو أمات وأحيا ) . فإن قيل : متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك ، بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت ؟ نقول : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أحيا وأمات .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : هو بمعنى المستقبل ، فإن الأمر قريب يقال : فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه ، فكذلك الإحياء والإماتة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : أمات أي : خلق الموت والجمود في العناصر ، ثم ركبها ، وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) وهو أيضا من جملة المتضادات التي تتوارد على النطفة ، فبعضها يخلق ذكرا ، وبعضها أنثى ولا يصل إليه فهم الطبيعي الذي يقول : إنه من البرد والرطوبة في الأنثى ، فرب امرأة أيبس مزاجا من الرجل ، وكيف وإذا نظرت في المميزات بين الصغير والكبير تجدها أمورا عجيبة منها نبات اللحية ، وأقوى ما قالوا في نبات اللحية أنهم قالوا : الشعور مكونة من بخار دهاني ينحدر إلى المسام ، فإذا كانت المسام في غاية الرطوبة والتحلل كما في مزاج الصبي والمرأة ، لا ينبت الشعر لخروج تلك الأدخنة من المسام الرطبة بسهولة قبل أن يتكون شعر ، وإذا كانت في غاية اليبوسة والتكاثف ينبت الشعر لعسر خروجه من المخرج الضيق ، ثم إن تلك المواد تنجذب إلى مواضع مخصوصة فتندفع ، إما إلى الرأس فتندفع إليه ؛ لأنه مخلوق كقبة فوق الأبخرة والأدخنة فتتصاعد إليه تلك المواد ، فلهذا يكون شعر الرأس أكثر وأطول ، ولهذا في الرجل مواضع تنجذب إليها الأبخرة والأدخنة ، منها الصدر لحرارة القلب ، والحرارة تجذب الرطوبة كالسراج للزيت ، ومنها بقرب آلة التناسل ؛ لأن حرارة الشهوة تجذب أيضا ، ومنها اللحيان فإنها كثيرة الحركة بسبب الأكل والكلام ، والحركة أيضا جاذبة ، فإذا قيل لهم : فما السبب الموجب لتلازم نبات شعر اللحية وآلة التناسل فإنها إذا قطعت لم تنبت اللحية ؟ وما الفرق بين سن الصبا وسن الشباب [ ص: 19 ] وبين المرأة والرجل ؟ ففي بعضها يبهت وفي بعضها يتكلم بأمور واهية ، ولو فوضها إلى حكمة إلهية لكان أولى ، وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال تعالى : ( وأنه خلق ) ولم يقل : وأنه هو خلق كما قال : ( وأنه هو أضحك وأبكى ) وذلك لأن الضحك والبكاء ربما يتوهم متوهم أنه بفعل الإنسان ، وفي الإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم بعيدا ، لكن ربما يقول به جاهل ، كما قال من حاج إبراهيم الخليل عليه السلام حيث قال : ( أنا أحيي وأميت ) [ البقرة : 258 ] فأكد ذلك بذكر الفصل ، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أن يفعل أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى : ( وأنه هو أغنى وأقنى ) [ النجم : 48 ] حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى ، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون : ( إنما أوتيته على علم عندي ) [ القصص : 78 ] ولذلك قال : ( وأنه هو رب الشعرى ) [ النجم : 49 ] لأنهم كانوا يستبعدون أن يكون رب محمد هو رب الشعرى . فأكد في مواضع استبعادهم النسبة إلى الله تعالى الإسناد ولم يؤكده في غيره .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الذكر والأنثى اسمان هما صفة أو اسمان ليسا بصفة ؟ المشهور عند أهل اللغة الثاني والظاهر أنهما من الأسماء التي هي صفات ، فالذكر كالحسن والعزب والأنثى كالحبلى والكبرى ، وإنما قلنا : إنها كالحبلى في رأي لأنها حيالها أنشئت لا كالكبرى ، وإن قلنا : إنها كالكبرى في رأي ، وإنما قلنا : إن الظاهر أنهما صفتان ؛ لأن الصفة ما يطلق على شيء ثبت له أمر كالعالم يطلق على شيء له علم ، والمتحرك يقال لشيء له حركة بخلاف الشجر والحجر ، فإن الشجر لا يقال لشيء بشرط أن يثبت له أمر ، بل هو اسم موضوع لشيء معين ، والذكر اسم يقال لشيء له أمر ، ولهذا يوصف به ، ولا يوصف بالشجر ، يقال : جاءني شخص ذكر ، أو إنسان ذكر ، ولا يقال : جسم شجر ، والذي ذهب إلى أنه اسم غير صفة إنما ذهب إليه لأنه لم يرد له فعل ، والصفة في الغالب له فعل كالعالم والجاهل ، والعزب والكبرى والحبلى ، وذلك لا يدل على ما ذهب إليه ؛ لأن الذكورة والأنوثة من الصفات التي لا يتبدل بعضها ببعض ، فلا يصاغ لها أفعال ؛ لأن الفعل لما يتوقع له تجدد في صورة الغالب ، ولهذا لم يوجد للإضافيات أفعال كالأبوة والبنوة والأخوة ؛ إذ لم تكن من الذي يتبدل ، ووجد للإضافيات المتبدلة أفعال ، يقال : واخاه وتبناه لما لم يكن مثبتا بتكلف فقبل التبدل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية