الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 205 ] ( باب التحالف ) قال : ( وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنا وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع وادعى المشتري أكثر منه فأقام أحدهما البينة قضى له بها ) لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى والبينة أقوى منها ( وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى ) لأن البينات للإثبات ولا تعارض في الزيادة ( ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا فبينة البائع أولى في الثمن وبينة المشتري أولى في المبيع ) نظرا إلى زيادة الإثبات . [ ص: 206 ] ( وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل للمشتري إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع ، وقيل للبائع إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع ) لأن المقصود قطع المنازعة ، وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ فإذا علما به يتراضيان به ( فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر ) [ ص: 207 ] وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس ، لأن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره ، والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره ، فكل واحد منهما منكر فيحلف ; فأما بعد القبض فمخالف للقياس لأن المشتري لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفى بحلفه ، [ ص: 208 ] لكنا عرفناه بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا } .

[ ص: 205 ]

التالي السابق


[ ص: 205 ] باب التحالف )

لما ذكر حكم يمين الواحد شرع في بيان حكم يمين الاثنين لأن الاثنين بعد الواحد طبعا فراعاه في الوضع ليناسب الوضع الطبع ( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإذ اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ) أي المشتري ( ثمنا ) بأن قال مثلا : اشتريته بمائة ( وادعى البائع أكثر منه ) بأن قال : بعته بمائة وخمسين ( أو اعترف البائع بقدر من المبيع ) بأن قال مثلا : المبيع كر من الحنطة ( وادعى المشتري أكثر منه ) بأن قال : هو كران من الحنطة . والحاصل إذا وقع الاختلاف بينهما في قدر الثمن كما في الصورة الأولى أو في قدر المبيع كما في الصورة الثانية ( فأقام أحدهما البينة قضي له بها ) أي بالبينة ( لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى والبينة أقوى منها ) لأن البينة توجب منه الحكم على القاضي ومجرد الدعوى لا يوجبه عليه ( وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى لأن البينات للإثبات ) أي وضعت في الشرع للإثبات فكل ما كان أكثر إثباتا كان أولى ( ولا تعارض في الزيادة ) لأن البينة المثبتة للأقل لا تتعرض للزيادة ، فكانت البينة المثبتة للزيادة سالمة عن المعارض ، كذا في غاية البيان .

قال تاج الشريعة : فإن قلت : البينة التي تثبت الأقل تنفي الزيادة لأنها تثبت أن كل الثمن هذا القدر . قلت : المثبتة للزيادة تثبتها قصدا وتلك لا تنفيها قصدا فكانت الأولى أولى لما قامت بينها معارضة انتهى . أقول : جوابه هذا وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنه غير مطابق لظاهر تقرير المصنف ، فإن المفهوم منه انتفاء التعارض بين البينتين في الزيادة ، والمفهوم من هذا الجواب تحقق التعارض بينهما في الزيادة مع رجحان البينة المثبتة للزيادة على البينة النافية لها فتأمل ( ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا ) بأن قال البائع مثلا : بعتك هذه الجارية بمائة دينار وقال المشتري : بعتنيها وهذا العبد معها بخمسين دينارا وأقاما بينة ( فبينة البائع أولى في الثمن وبينة المشتري أولى في المبيع نظرا إلى زيادة الإثبات ) فالجارية والعبد جميعا للمشتري بمائة دينار في المثال المذكور .

[ ص: 206 ] وقيل : هذا قول أبي حنيفة آخرا ، وكان يقول أولا وهو قول زفر : يقضي للمشتري بمائة وخمسة وعشرين دينارا ، ونظير هذه المسألة في الإجارات ، كذا في الشروح . ثم المراد من قوله ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا : أي في قدرهما على ما ذكرنا في صورة المسألة . وأما إذا اختلفا في جنس الثمن وأقاما البينة فالبينة بينة من الاتفاق على قوله ; كما لو قال البائع : بعتك هذه الجارية بعبدك هذا وقال المشتري : اشتريتها منك بمائة دينار وأقاما البينة يلزم البيع بالعبد وتقبل بينة البائع دون حق المشتري ، لأن حق المشتري في الجارية ثابت باتفاقهما ، وإنما الاختلاف في حق البائع فبينته على حقه أولى بالقبول ، ولأنه يثبت ببينته الحق لنفسه في العبد والمشتري ينفي ذلك والبينات للإثبات لا للنفي ، كذا في النهاية نقلا عن المبسوط .

أقول : في التعليل الثاني بحث ، أما أولا فبالمعارضة فإن المشتري يثبت ببينته الحق للبائع في مائة دينار والبائع ينفي ذلك ، والبينات للإثبات لا للنفي فينبغي أن تقبل بينة المشتري دون البائع . وأما ثانيا فبالنقض ، فإنه لو سلم هذا التعليل لأفاد عدم قبول بينة المشتري عند انفراده بإقامة البينة أيضا ، إذ حينئذ ينفي المشتري أيضا ببينته حق البائع فيما ادعاه ، والبينات للإثبات لا للنفي مع أن المسألة على أنه إذا أقام أحدهما البينة قضي له بها قطعا . وأما ثالثا فبالمنع ، فإنا لا نسلم أن المشتري ينفي ببينته ما يثبته البائع بل هو يثبت بها ما يدعيه لنفسه وهو كون حق البائع في مائة دينار ويسكت عما يثبته البائع وهو كون حقه في العبد ، فإن حصل مما يثبته المشتري نفي ما يثبته البائع فإنما هو بالتبع والتضمن لا بالأصالة والقصد ، وذلك لا ينافي كون وضع البينات للإثبات دون النفي ( وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل للمشتري ) أي يقول الحاكم للمشتري : ( إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع ، وقيل للبائع ) أي ويقول للبائع : ( إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع وإلا فسخنا البيع ، لأن المقصود ) أي المقصود من شرع الأسباب ( قطع المنازعة ) ودفع الخصومة ( وهذا جهة فيه ) أي القول المذكور للبائع وللمشتري جهة في قطع المنازعة ( لأنه ربما لا يرضيان ) أي المتبايعان ( بالفسخ فإذا علما به ) أي بالفسخ ( يتراضيان به ) أي بمدعي كل واحد منهما .

أقول : لقائل أن يقول : كما أن ما ذكر جهة في قطع المنازعة كذلك عكس ذلك جهة فيه بأن يقال للبائع : إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه المشتري وإلا فسخنا البيع ، وأن يقال للمشتري إما أن تقبل ما اعترف به البائع من المبيع وإلا فسخنا البيع . وبالجملة أن قطع المنازعة كما يمكن بأن يكلف مدعي الأقل بالرضا بالأكثر يمكن أيضا بعكسه ، وهو أن يكلف مدعي الأكثر بالرضا بالأقل ، فما الرجحان في اختيارهم الجهة المذكورة دون عكسها فتأمل ( فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر ) قال صاحب النهاية [ ص: 207 ] في شرح قول المصنف فإن لم يتراضيا : أي بأن يعطي كل واحد ما يدعي صاحبه انتهى .

أقول : فيه قصور ، لأن هذا لا يتصور إلا في الصورة الثالثة من الصور الثلاث المذكورة ، وهي ما إذا اختلفا في الثمن والمبيع جميعا دون الصورتين الأخريين ، إذ قد مر في الكتاب أن صورة الاختلاف في الثمن أن يدعي أحدهما ثمنا ويدعي الآخر أكثر منه ، وأن صورة الاختلاف في المبيع أن يدعي أحدهما قدرا من المبيع ويدعي الآخر أكثر منه ، فلو أعطى كل واحد ما يدعي صاحبه في هاتين الصورتين لزم إعطاء الثمنين معا أو إعطاء المبيعين معا وهذا خلف . ولا يخفى أن ما ذكره المصنف هاهنا حكم عام للصور الثلاثة جميعا فلا يناسبه التفسير المذكور ، وقال صاحب غاية البيان في شرح هذا المقام : أي إن لم يتراض البائع والمشتري : يعني لم يرض البائع بما ادعاه المشتري من المبيع ولم يرض المشتري بما ادعاه البائع من الثمن يستحلف القاضي كل واحد من البائع والمشتري على دعوى صاحبه انتهى .

أقول : وفيه أيضا قصور ، لأن هذا أيضا لا يجري إلا في الصورة الثالثة من تلك الصور الثلاث كما لا يخفى على ذي مسكة ، فلا يناسب ما ذكره المصنف هاهنا في الحكم العام للصور الثلاث كلها . وأما سائر الشراح فلم يتعرضوا هاهنا للشرح والبيان . فالحق عندي في شرح المقام أن يقال : أي إن لم يتراض البائع والمشتري على الزيادة سواء كانت مما يدعيه أحدهما كما في الصورة الأولى والصورة الثانية ، أو مما يدعيه كل واحد منهما كما في الصورة الثالثة استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر ، فحينئذ يجري معنى الكلام وفحوى المقام في كل صورة كما ترى ( وهذا التحالف قبل القبض ) أي قبل قبض المشتري السلعة ، كذا في العناية ومعراج الدراية ( على وفاق القياس لأن البائع يدعي زيادة الثمن والمشتري ينكره ) أي ينكر ما ادعاه البائع ( والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره فكل واحد منهما منكر فيحلف ) لأن اليمين على المنكر بالحديث المشهور ( فأما بعد القبض فمخالف للقياس ، لأن المشتري لا يدعي شيئا لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفى بحلفه ) أي كان القياس أن يكتفى بحلفه .

فإن قلت : إذا لم يدع المشتري شيئا فيما بعد القبض ينبغي أن لا تقبل بينته في هذه الصورة إذا أقامها ، لأن البينة للمدعي مع أنه قال فيما قبل : فأقام أحدهما البينة فقضى له بها . قلت : المراد أن المشتري لا يدعي شيئا ادعاء معنويا فيما بعد القبض ، وهذا لا ينافي أن يكون المشتري مدعيا ادعاء صوريا في هذه الصورة ، وبينة المدعي صورة تسمع على ما صرحوا به كما إذا ادعى المودع رد الوديعة على ما مر .

لا يقال : إن كان المشتري مدعيا صورة فيما بعد القبض يكون البائع منكرا لما ادعاه صورة فيصير التحالف هاهنا أيضا موافقا للقياس . لأنا نقول : لم يقل أحد بتحليف المنكر الصوري ، بل إنما اليمين إيذاء على المنكر الحقيقي ، بخلاف المدعي الصوري فإن البينة تسمع منه على ما ذكروا . ولك أن تقول في الجواب عن أصل السؤال أن المشتري لا يدعي شيئا فيما بعد القبض وقبول بينته فيه لدفع اليمين عنه لا لكونه مدعيا ، وهذا أي قبول البينة من غير المدعي لدفع اليمين كثير في مسائل الفقه يعرفه من يتتبع الكتب ، وهذا الوجه من [ ص: 208 ] الجواب هو الأوفق لما رأيناه حقا في شرح مراد المصنف من كلامه المذكور في صدر كتاب الدعوى فتذكر . أقول : بقي هاهنا شيء ، وهو أنه إن أراد المصنف بكلمة هذا في قوله وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس الإشارة إلى ما في صورة الاختلاف في الثمن فقط من الصور الثلاث المذكورات كما هو الظاهر من اختصاص الدليل الذي ذكره بقوله لأن البائع يدعي زيادة الثمن إلخ بتلك الصورة فلا يخلو الكلام عن الركاكة لفظا ومعنى .

أما الأول فلأن تلك الصورة أبعد الصور المذكورة ، فالإشارة إلى ما فيها بلفظ القريب بعيد . وأما الثاني فلأن الأصل المذكور : أعني كون التحالف قبل القبض على وفاق القياس وبعده على خلافه غير مخصوص بتلك الصورة ، بل هو جار أيضا في صورة الاختلاف في المبيع ، فإن المشتري يدعي فيها قبل قبض البائع الثمن زيادة المبيع والبائع ينكره ، والبائع يدعي وجوب تسليم الثمن بما اعترف من المبيع والمشتري ينكره فكل منهما منكر فيحلف . وأما بعد قبض البائع الثمن فلا يدعي على البائع شيئا لأن الثمن سالم له . بقي دعوى المشتري في زيادة المبيع والبائع ينكره فيكتفي بحلفه ، ولقد أفصح الإمام الزيلعي عن عدم اختصاصه بتلك الصورة حيث قال في التبيين : وهذا إذا كان قبل قبض أحد البدلين فظاهر وهو قياس ، وإن كان بعده فمخالف للقياس لأن القابض منهما لا يدعي شيئا على صاحبه ، وإنما ينكر ما ادعاه الآخر انتهى .

فإذا لم يكن الأصل المذكور مخصوصا بتلك الصورة لم يظهر لتخصيص الإشارة إلى ما فيها وجه ، وإن أراد بها الإشارة إلى جنس التحالف فلا يخلو المقام عن الركاكة لفظا ومعنى أيضا . أما الأول فلأن لفظ هذا يصير حينئذ زائدا ، لا موقع له في الظاهر ، وأما الثاني فلأن الدليل الذي ذكره بقوله لأن البائع يدعي زيادة الثمن إلخ يصير حينئذ أخص من المدعي .

ثم اعلم أن صاحب الكافي وكثيرا من الثقات تركوا كلمة هذا في بيان الأصل المذكور ، ولكنهم ذكروا أيضا في دليل مخالفة القياس بعض القبض ما يختص بصورة الاختلاف في الثمن فقط ، ويمكن توجيه الكل بعناية فتأمل ( ولكنا عرفناه بالنص ) استدراك من قوله فيكتفى بحلفه . يعني كان القياس في صورة الاختلاف بعد القبض أن يكتفى بحلف المشتري لكنا عرفنا التحالف بالنص ( وهو قوله عليه الصلاة والسلام { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا } ) قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : هذا الحديث مخالف للمشهور ، فإن لم يكن مشهورا فهو مرجوح ، وإن كان فكذلك لعموم المشهور أو يتعارضان ولا ترجيح انتهى . أقول : في الجواب عنه قد تقرر في كتب الأصول أن عبارة النص ترجح على إشارة النص ، فحينئذ يكون هذا الحديث راجحا على الحديث المشهور ، لأن هذا الحديث يدل بعبارته على استحلاف المدعي أيضا فيما نحن فيه .

وأما الحديث المشهور فلا يدل بعبارته على عدم استحلاف المدعي مطلقا ، بل إنما يدل عليه بإشارته حيث يفهم من تقسيم الحجتين للخصمين أو من جعل جنس الأيمان على المنكرين كما بين فيما مر فهو إذن مرجوع




الخدمات العلمية