الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 294 ] فصل

                        ومنها ضد هذا ، وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ، ويدعون أنها مخالفة للمعقول ، وغير جارية على مقتضى الدليل ، فيجب ردها :

                        كالمنكرين لعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، ورؤية الله عز وجل في الآخرة ، وكذلك حديث الذباب وقتله ، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الذي فيه الداء ، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل . . . . وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول .

                        [ و ] ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ومن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم ؛ كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب .

                        وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة ؛ لينفروا الأمة عن أتباع السنة وأهلها ؛ كما روي عن ( أبي ) بكر بن حمدان : قال : قال : " عمرو بن عبيد : لا يعفى عن اللص دون السلطان " .

                        قال : " فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : فهلا قبل أن تأتيني به ، قال : أتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ؟ قلت : أفتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت الحلقة قال : يا أبا بكر حدث " .

                        [ ص: 295 ] وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل .

                        وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال : " لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ، ومن قال ما لا يعقل ؛ فليس بكافر " ! .

                        وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة ، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن ، حتى أباحوا الخمر بقوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية .

                        ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ، وهذا وعيد شديد تضمنه النهي لاحق بمن ارتكب رد السنة .

                        ولما ردوها بتحكم العقول ؛ كان الكلام معهم راجعا إلى أصل التحسين والتقبيح ، وهو مذكور في الأصول ، وسيأتي له بيان إن شاء الله .

                        وقال عمر بن النضر : " سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه ، فقلت له : ليس هكذا يقول أصحابنا ، قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت :أيوب ، ويونس ، وابن عون ، والتميمي ، قال : أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء " .

                        [ ص: 296 ] وقال ابن علية : حدثني اليسع ؛ قال : تكلم واصل ( يعني : ابن عطاء ) يوما ، قال : فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة .

                        كان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال ، فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد ، فأعجب به ، فزوجه أخته ، وقال ( لها ) : زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة ، ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء .

                        فحكى عمرو بن علي أنه سمع ممن يثق به : أنه قال : كنت عند عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل ، فقال : يا أبا عثمان ! ما سمعت من الحسن يقول في قول الله عز وجل : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ؟ قال : تريد أن أخبرك برأي حسن . قال : لا أريد إلا ما سمعت من الحسن . قال : سمعت الحسن يقول : كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلا ، وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدما ، وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقا ، وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقا ، فقال له عثمان الطويل : يا أبا عثمان ! ليس هذا قولنا ، قال عمرو : قد قلت أريد أن أخبرك برأي الحسن ، فأنا أكذب على الحسن .

                        وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل ؛ قال : حدثنا معاذ ؛ قال : كنت عند عمرو بن عبيد ، فجاءه عثمان بن فلان ، فقال : يا أبا عثمان ! سمعت ـ والله ـ بالكفر . قال : ما هو ؟ لا تعجل بالكفر . قال : هاشم الأوقص ، زعم [ ص: 297 ] أن تبت يدا أبي لهب وقول الله عز وجل : ذرني ومن خلقت وحيدا ؛ لم يكن هذا في أم الكتاب ، والله تعالى يقول : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ، فما الكفر إلا هذا ؟ فسكت ساعة ، ثم تكلم فقال : والله لو كان الأمر كما تقول ؛ ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا كان على الوحيد من لوم . قال عثمان ـ في مجلسه ـ : هذا والله الدين ، قال معاذ : ثم قال في آخره : فذكرته لوكيع ، فقال : يستتاب قائلها فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه .

                        ومثل هذا محكي ، لكن ( عن ) بعض المرموقين من أئمة الحديث .

                        فروي عن علي ابن المديني ، عن المؤمل ، عن الحسن بن وهب الجمحي ؛ قال : " الذي كان بيني وبين فلان خاص ، فانطلق بأهله إلى بئر ميمون ، فأرسل إلي : أن ائتني ، فأتيته عشية ، فبت عنده " ، قال : فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر ، فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل ، قال : " فلما أصبحنا ؛ جاء بغدائه ، فتغدينا " ، قال : " ثم ذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق " . قال : فقال لي : أدعوك إلى رأي الحسن . قال : وفتح لي شيئا من القدر . قال : فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله . قال : " فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل ، أو أنا داخل وهو خارج ، فأخذ بيدي ، فقال : يا أبا عمر ! حتى متى ؟ حتى [ ص: 298 ] متى ؟ قال : " فلم أكلمه " ، فقال : " ما لي ؟ أرأيت لو أن رجلا قال : " إن تبت يدا أبي لهب " ليست من القرآن ؛ ما كنت تقول له ؟ " ، قال : " فنزعت يدي من يده " .

                        قال علي : " قال مؤمل : فحدثت به سفيان بن عيينة ، فقال لي : ما كنت أرى أنه بلغ هذا كله " .

                        قال علي : " وسمعته أنا وأحمد بن .

                        قال : حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ، فقال : ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل ! .

                        فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ! كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق ، وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج ، فيتأول لها الواضحات ، ويتبع المتشابهات ، وسيأتي ، والجميع داخلون تحت ذمها .

                        وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن ، وقد ذم الظن في القرآن ؛ كقوله تعالى : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، وقال : إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، . . . . . وما جاء في معناه ، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله [ ص: 299 ] تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس تحريمها في القرآن نصا ، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا .

                        والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا ، وقد وجدنا له محالا ثلاثة :

                        أحدها : الظن في أصول الدين ؛ فإنه لا يغني عند العلماء ؛ لاحتماله النقيض عند الظان ؛ بخلاف الظن في الفروع ؛ فإنه معمول به عند أهل الشريعة ؛ للدليل الدال على عمله ، فكان الظن مذموما إلا ما تعلق بالفروع منه ، وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع .

                        والثاني : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ، ولا شك أنه مذموم هنا ؛ لأنه من التحكم ، ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ، لا باتباع الهدى المنبه عليه بقوله : ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، ولذلك أثبت ذمه ؛ بخلاف الظن الذي أثاره دليل ، فإنه غير مذموم في الجملة ؛ لأنه خارج عن اتباع الهوى ، ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله ؛ كالفروع .

                        والثالث : أن الظن على ضربين :

                        ظن يستند إلى أصل قطعي ، وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت ؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم ، فهي من قبيل المعلوم جنسه .

                        [ ص: 300 ] وظن لا يستند إلى قطعي ، بل إما مستند إلى غير شيء أصلا ، وهو مذموم ـ كما تقدم ـ ، وإما مستند إلى ظن مثله ، فلذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي ؛ فكالأول ، أو إلى ظني ، رجعنا إليه ، فلا بد أن يستند إلى قطعي ، وهو محمود ، أو إلى غير شيء ، وهو مذموم .

                        فعلى كل تقدير ؛ كل خبر واحد صح سنده ، فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي ، فيجب قبوله ، ومن هنا قبلناه مطلقا ، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء ، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها ، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله .

                        ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ، ورد قول من اعتمد على ما فيها ، حتى عدوا القول به مخالفا للعقل ، والقائل به معدودا في المجانين .

                        فحكى أبو بكر بن العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية : أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات رؤية الباري أم لا ؟ فقال : " لا ! لأنه قال بما لا يعقل ، ومن قال بما لا يعقل ؛ لا يكفر " !

                        قال ابن العربي : " فهذه منزلتنا عندهم ، فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى ، أعاذنا الله من ذلك بفضله " .

                        وزل بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة ، فزعم أن خبر الواحد كله زعم ، وهو ما حكي في الأثر : بئس مطية الرجل زعموا ، [ ص: 301 ] والأثر الآخر : إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، وهذه من كلام هذا المتأخر وهلة ، عفا الله عنه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية