الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أقسام الإدغام الصغير من حيث الكمال والنقصان

ينقسم الإدغام الصغير في غير الأقسام المتقدمة التي هي الإدغام الواجب والجائز والممتنع إلى قسمين آخرين: كامل وناقص، ولكل منهما حد يخصه وحقيقة يتميز بها عن الآخر.

الإدغام الكامل

أما حقيقة الإدغام الكامل فهو سقوط المدغم ذاتا وصفة بإدغامه في المدغم فيه، وبذلك يصير المدغم والمدغم فيه حرفا واحدا مشددا تشديدا كاملا، وذلك نحو: فآمنت طائفة [الصف: 14] وإن أردتم [النساء: 20] وقل رب [طه: 114] من ربهم [البقرة: 5] [ ص: 254 ] من لدنه [الكهف: 2] من مال الله [النور: 33] كم من فئة [البقرة: 249] ونحو الراكعون [التوبة: 112].

ومن ثم نرى أن التاء من فآمنت [الصف: 14] في المثال الأول أبدلت طاء ثم أدغمت في الطاء من "طائفة" فانعدمت ذاتا وصفة، وصار النطق بنون مفتوحة بعدها طاء مفتوحة مشددة، وكذلك القول في باقي الأمثلة المذكورة هنا وما شابهها من غيرها، وسمي كاملا لاستكمال التشديد.

الإدغام الناقص

وأما حد الإدغام الناقص فهو سقوط المدغم ذاتا لا صفة بإدغامه في المدغم فيه، وبذلك يصير المدغم والمدغم فيه حرفا واحدا مشددا تشديدا ناقصا، وذلك من أجل بقاء صفة المدغم، نحو إدغام الطاء الساكنة في التاء المثناة فوق نحو: أحطت [النمل: 22] بسطت [المائدة: 28].

وسمي ناقصا؛ لأنه غير مستكمل التشديد من أجل بقاء صفة المدغم وهي هنا صفة الإطباق، وكيفية أداء الإدغام هنا المحافظة على سكون الطاء من غير قلقلة، وهذا هو المراد من بيان إطباق الطاء؛ وذلك لئلا تشتبه بالتاء المدغمة المجانسة لها في المخرج، ولا يضبط هذا الإدغام إلا بالمشافهة والسماع من شيوخ الأداء.

ومنه أيضا إدغام القاف الساكنة في الكاف من ألم نخلقكم [المرسلات: 20] بالمرسلات في أحد الوجهين، ويسمى إدغاما ناقصا؛ لأنه غير مستكمل التشديد أيضا [ ص: 255 ] من أجل بقاء صفة المدغم، وهي هنا صفة الاستعلاء التي في القاف.

كيفية أداء الإدغام الناقص في «ألم نخلقكم»

وكيفية أداء هذا الإدغام المحافظة على سكون القاف من غير قلقلة أيضا.

أما الوجه الآخر في هذه الكلمة فهو إدغام القاف في الكاف إدغاما كاملا بإسقاطها ذاتا وصفة، وبذلك يصير النطق بلام مضمومة بعدها كاف مضمومة مشددة تشديدا كاملا.

والوجهان صحيحان مقروء بهما لجميع القراء، إلا أن الإدغام الكامل هو الأولى والمختار عند الجمهور، المقدم في الأداء، وقد حكى غير واحد الإجماع عليه.

وقد أشار بعضهم إلى كيفية أداء الوجهين في لفظ نخلقكم [المرسلات: 20] بقوله:


فبعضهم أتى بالقاف غير مقلقل وبعض أتى بالكاف خالصة تلا

اهـ

كما أشار إلى ما ذكرناه من كيفية الإدغام الناقص في نحو: بسطت [المائدة: 28] وإلى الخلاف في ألم نخلقكم [المرسلات: 20] الحافظ ابن الجزري في المقدمة الجزرية بقوله:


وبين الإطباق من أحطت مع     بسطت والخلف بـ(نخلقكم) وقع

اهـ

ومن الإدغام الناقص أيضا إدغام النون الساكنة - ولو تنوينا - في الواو والياء [ ص: 256 ] بالغنة نحو: من ولي ولا نصير [التوبة: 74] إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم [الأنفال: 70].

وسمي الإدغام هنا ناقصا؛ لأنه غير مستكمل التشديد من أجل بقاء صفة الغنة في المدغم، فهي بمنزلة حرف الإطباق الموجود مع الإدغام في نحو: فرطت [الزمر: 56] وبمنزلة حرف الاستعلاء الموجود مع الإدغام في ألم نخلقكم [المرسلات: 20] على القول بنقصانه.

وأما إدغام النون الساكنة والتنوين في اللام والراء من غير غنة في نحو: من لدني [الكهف: 76] هدى للناس [البقرة: 185] من رزق الله [البقرة: 60] إن الله غفور رحيم [البقرة: 182] فمن قبيل الإدغام الكامل لانعدام المدغم ذاتا وصفة بإدغامه في المدغم فيه ولاستكمال التشديد.

أما إذا قرئ ببقاء صفة الغنة وهي قراءة الأئمة " نافع ، وأبي جعفر ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوب، وابن عامر ، وعاصم من رواية حفص في أحد الوجهين عنهم من طريق طيبة النشر" فالإدغام من قبيل الإدغام الناقص لعدم استكمال التشديد فيه من أجل بقاء صفة الغنة، نص على ذلك الحافظ أبو عمرو الداني في المحكم - كما سيأتي - والعلامة المارغني في شرح ضبط الخراز، وكذلك العلامة الضباع في تذكرة الإخوان، وغيرهم.

[ ص: 257 ] كيفية إدغام النون الساكنة والتنوين في اللام والراء بالغنة

وأما الغنة في هذا الإدغام فتجعل على اللام والراء، نبه على ذلك العلامة الخليجي الإسكندري في كتابه تيسير الأمر، وبذلك قرأت وبه أقرئ.

هذا، ويستثنى من قراءة الإمام نافع رواية ورش من طريق الأزرق؛ حيث قرأ بعدم بقاء صفة الغنة في هذا الإدغام.

وأما إدغام النون الساكنة - ولو تنوينا - في النون والميم في نحو: إن نقول [هود: 54] يومئذ ناعمة [الغاشية: 8] من ماء [البقرة: 164] مثلا ما [البقرة: 26] فمن قبيل الإدغام الكامل على الصحيح لاستكمال التشديد فيه، وذلك لسقوط المدغم ذاتا وصفة بانقلابه من جنس المدغم فيه، كما هو واضح من النطق، وهذا هو المعتمد والمأخوذ به، وعليه الجمهور.

وذهب بعضهم إلى أنه من قبيل الإدغام الناقص بحجة أن الغنة منعت كمال التشديد فيه، وألحقوه بإدغام النون الساكنة والتنوين في الواو والياء مع الغنة في [ ص: 258 ] نقصانه، وجاء هذا في بعض شراح المقدمة الجزرية وغيرها ككتاب العقد الفريد الكبير والرعاية.

ونقول: إن هذا القول مخالف لما عليه الجمهور، ومردود عليه بأكثر من رد، وكلها تؤيد أن إدغام النون الساكنة والتنوين في النون والميم من قبيل الإدغام الكامل.

ومن تلك الردود ما قاله الإمام أبو شامة، نقله عن صاحب "نهاية القول المفيد" ونصه: "وأما إدغامهما في النون والميم فهو إدغام محض؛ لأن في كل من المدغم والمدغم فيه غنة، فإذا ذهبت إحداهما - يعني غنة المدغم بالإدغام - بقيت الأخرى، وهذا مذهب الجمهور، فالتشديد مستكمل على مذهبهم" اهـ بلفظه.

قال الفقير: ومما يعضد قول الحافظ أبي شامة وغيره من الأئمة الذين لم يرتضوا نقصان الإدغام في هذه الحالة - قول علماء فن الضبط في هذه المسألة؛ حيث قالوا بكمال الإدغام حال إدغام النون الساكنة والتنوين في النون والميم، وأورد هنا بعضا من كلام المتقدمين منهم والمتأخرين، فأقول وبالله التوفيق:

جاء في كتاب "المحكم في نقط المصاحف" للحافظ أبي عمرو الداني - رحمه الله - في باب ذكر حكم النون الساكنة وما بعدها - أي من الحروف - في حال البيان والإدغام والإخفاء عند ذكره لنقط الإدغام ما حاصله: أي إن النون الساكنة تدغم إدغاما صحيحا وتدخل إدخالا شديدا إذ أتى بعدها اللام والراء والنون والميم، وكذلك إذا أتى بعدها الواو والياء على مذهب من أذهب الغنة عندهما ولم يبق لها أثر مع الإدغام.

وعلى مذهب من بين غنة النون عند اللام والراء والواو والياء لم تدغم النون إدغاما تاما؛ لأنها لم تنقلب إلى لفظ هذه الحروف قلبا صحيحا، ولم تدغم فيها إدغاما تاما لبقاء صوتها الذي لها من الخيشوم وهو الغنة.

وقال رضي الله عنه [ ص: 259 ] بنحو ذلك في باب التنوين قبل باب النون في الكتاب نفسه، اهـ بمعناه.

وجاء في شرح ضبط الخراز للعلامة المارغني ما حاصله أيضا: "إن من الإدغام الكامل إدغام النون الساكنة والتنوين في أربعة أحرف وهي: اللام والميم والنون والراء، وجمعها لفظ النظم في جملة "لم نر" وكذلك الواو والياء عند من قرأ بإدغامهما فيهما بغير غنة، وإن من الإدغام الناقص إدغامهما في الواو والياء بالغنة، وكذلك اللام والراء عند من أدغم وأبقى الغنة" اهـ بمعناه أيضا.

بعد هذا أصبح من الواضح تماما أن إدغام النون الساكنة والتنوين في النون والميم من الإدغام الكامل، وهو الصحيح المأخوذ به عند الجمهور، وهو الذي تلقيناه عن مشايخنا في الجامع الأزهر المعمور، فتأمله، والله الموفق.

وصفوة القول أن الفرق بين الإدغام الكامل والناقص هو أن الإدغام الناقص يبقى في المدغم وصفه، سواء أكان إطباقا أم استعلاء أم غنة، وأن الإدغام الكامل هو الذي لا يبقى للمدغم أثر، وذلك بسقوطه ذاتا وصفة وإدغامه في المدغم فيه.

وهذا ما أشار إليه العلامة السمنودي في لآلئ البيان في تقسيم الإدغام بقوله:


ذا ناقص إن يبق وصف المدغم     وكامل إن يمح ذا فلتعلم

اهـ

ومعنى سقوط المدغم في كل ما مر ذكره إنما هو في اللفظ لا في الخط، فتأمل.

تتمة: قد يعبر عن الإدغام الناقص بالإدغام غير المحض ناقص التشديد، وعن الإدغام الكامل بالإدغام المحض كامل التشديد، وبالإدغام التام، وبالخالص، وكلها ألفاظ مترادفة، فتفطن، وبالله التوفيق.

التالي السابق


الخدمات العلمية