الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ) والمراودة من الرود ، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين ، يقال : طالب زيد عمرا بالدراهم ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل ، يقال : راوده عن المساعدة ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بـ " عن " ، والمطالبة بالباء ؛ وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال ، فإذا قلت : أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين ، بخلاف ما إذا قيل عن كذا ، ويزيد هذا ظهورا قول القائل : أخبرني زيد عن مجيء فلان ، وقوله : أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ، ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء ، والضيف يقع على الواحد والجماعة ، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم ، وهي أنهم كانوا مفسدين ، وسمعوا بضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم . وقوله : ( فطمسنا أعينهم ) نقول : إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            الأولى : الضمير في راودوه إن كان عائدا إلى قوم لوط فما في قوله : ( أعينهم ) أيضا عائدا إليهم فيكون قد طمس أعين قوم ولم يطمس إلا أعين قليل منهم ، وهم الذين دخلوا دار لوط ، وإن كان عائدا إلى الذين دخلوا الدار فلا ذكر لهم فكيف القول فيه ؟ نقول : المراودة حقيقة حصلت من جمع منهم لكن لما كان الأمر من القوم ، وكان غيرهم ذلك مذهبه أسندها إلى الكل ثم بقوله راودوه حصل قوم هم المراودون حقيقة ، فعاد الضمير في أعينهم إليهم مثاله قول القائل : الذين آمنوا صلوا فصحت صلاتهم فيكون هم في صلاتهم عائدا إلى الذين صلوا بعد ما آمنوا ولا يعود إلى مجرد الذين آمنوا لأنك لو اقتصرت على الذين آمنوا ، فصحت صلاتهم لم يكن كلاما منظوما ولو قلت : الذين صلوا فصحت صلاتهم صح الكلام ، فعلم أن الضمير عائد إلى ما حصل بعد قوله : ( راودوه ) والضمير في راودوه عائد إلى المنذرين المتمارين بالنذر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال هاهنا : ( فطمسنا أعينهم ) وقال في يس : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) [ يس : 66 ] فما الفرق ؟ نقول : هذا مما يؤيد قول ابن عباس فإنه نقل عنه أنه قال : المراد من الطمس الحجب عن الإدراك ، فما جعل على بصرهم شيء غير أنهم دخلوا ولم يروا هناك شيئا فكانوا كالمطموسين ، وفي يس أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة ، أي ألزق أحد الجفنين بالآخر فيكون على العين جلدة فيكون قد طمس عليها ، وقال غيره : إنهم عموا وصارت عينهم مع وجههم كالصفحة الواحدة ، ويؤيده قوله تعالى : ( فذوقوا عذابي ) لأنهم إن بقوا مصرين ولم يروا شيئا هناك لا يكون ذلك عذابا ، والطمس بالمعنى الذي قاله غير ابن عباس عذاب ، فنقول : الأولى أن يقال : إنه تعالى حكى هاهنا ما وقع وهو طمس العين وإذهاب ضوئها وصورتها [ ص: 55 ] بالكلية حتى صارت وجوههم كالصفحة الملساء ولم يمكنهم الإنكار لأنه أمر وقع ، وأما هناك فقد خوفهم بالممكن المقدور عليه فاختار ما يصدقه كل أحد ، ويعرف به وهو الطمس على العين ؛ لأن إطباق الجفن على العين أمر كثير الوقوع ، وهو بقدرة الله تعالى وإرادته فقال : ( ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ) وما شققنا جفونهم عن عينهم ، وهو أمر ظاهر الإمكان كثير الوقوع ، والطمس على ما وقع لقوم لوط نادر ، فقال هناك : " على أعينهم " ليكون أقرب إلى القبول .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( فذوقوا عذابي ونذر ) خطاب ممن وقع ومع من وقع ؟ قلنا : فيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : فيه إضمار تقديره فقلت : على لسان الملائكة ذوقوا عذابي .

                                                                                                                                                                                                                                            ثانيها : هذا خطاب مع كل مكذب تقديره كنتم تكذبون فذوقوا عذابي فإنهم لما كذبوا ذاقوه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثالثها : أن هذا الكلام خرج مخرج كلام الناس فإن الواحد من الملوك إذا أمر بضرب مجرم وهو شديد الغضب فإذا ضرب ضربا مبرحا وهو يصرخ والملك يسمع صراخه يقول عند سماع صراخه : ذق إنك مجرم مستأهل ، ويعلم الملك أن المعذب لا يسمع كلامه ويخاطب بكلامه المستغيث الصارخ . وهذا كثير فكذلك لما كان كل أحد بمرأى من الله تعالى يسمع إذا عذب معاندا كان قد سخط الله عليه يقول : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [ الدخان : 49 ] ( فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا ) [ السجدة : 14 ] ( فذوقوا عذابي ) ولا يكون به مخاطبا لمن يسمع ويجيب ، وذلك إظهار العدل أي لست بغافل عن تعذيبك فتتخلص بالصراخ والضراعة ، وإنما أنا بك عالم وأنت له أهل لما قد صدر منك ، فإن قيل : هذا وقع بغير الفاء ، وأما بالفاء فلا تقول ، وبالفاء فإنه ربما يقول : كنتم تكذبون فذوقوا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : النذر كيف يذاق ؟ نقول : معناه ذق فعلك أي : مجازاة فعلك وموجبه ويقال : ذق الألم على فعلك وقوله : ( فذوقوا عذابي ) كقولهم : ذق الألم ، وقوله : ( ونذر ) كقولهم ذق فعلك أي ذق ما لزم من إنذاري ، فإن قيل : فعلى هذا لا يصح العطف لأن قوله : ( فذوقوا عذابي ) وما لزم من إنذاري وهو العذاب يكون كقول القائل : ذوقوا عذابي وعذابي ؟ نقول : قوله تعالى : ( فذوقوا عذابي ) أي : العاجل منه ، وما لزم من إنذاري وهو العذاب الآجل ؛ لأن الإنذار كان به على ما تقدم بيانه ، فكأنه قال : ذوقوا عذابي العاجل وعذابي الآجل ، فإن قيل : هما لم يكونا في زمان واحد ، فكيف يقال : ذوقوا ، نقول : العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل ، فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : ( أغرقوا فأدخلوا نارا ) [ نوح : 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية