الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( 13 ) )

يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ) من اليهود ( قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) فقال بعضهم : معنى ذلك : قد يئس هؤلاء القوم الذين غضب الله عليهم من اليهود من ثواب الله في الآخرة ، وأن يبعثوا ، كما يئس الكفار الأحياء من أمواتهم الذين هم في القبور أن يرجعوا إليهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ) . . . الآية ، يعني من مات من الذين كفروا ، فقد يئس الأحياء [ ص: 347 ] من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم ، أو يبعثهم الله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن أنه قال في هذه الآية : ( قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) قال : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( قد يئسوا من الآخرة ) يقول : يئسوا أن يبعثوا كما يئس الكفار أن ترجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة ) . . . الآية ، الكافر لا يرجو لقاء ميته ولا أجره .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) يقول من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء منهم أن يرجعوا إليهم ، أو يبعثهم الله .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد يئسوا من الآخرة أن يرحمهم الله فيها ، ويغفر لهم ، كما يئس الكفار الذين هم أصحاب قبور قد ماتوا وصاروا إلى القبور من رحمة الله وعفوه عنهم في الآخرة ، لأنهم قد أيقنوا بعذاب الله لهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في هذه الآية ( قد يئسوا من الآخرة ) . . . الآية . قال : أصحاب القبور الذين في القبور قد يئسوا من الآخرة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى; [ ص: 348 ] وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ) قال : من ثواب الآخرة حين تبين لهم عملهم ، وعاينوا النار .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثنا محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ( قد يئسوا من الآخرة ) . . . الآية ، قال : أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : قال الكلبي : قد يئسوا من الآخرة ، يعني اليهود والنصارى ، يقول : قد يئسوا من ثواب الآخرة وكرامتها ، كما يئس الكفار الذين قد ماتوا فهم في القبور من الجنة حين رأوا مقعدهم من النار .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله ( لا تتولوا قوما ) . . . الآية ، قال : قد يئس هؤلاء الكفار من أن تكون لهم آخرة ، كما يئس الكفار الذين ماتوا - الذين في القبور - من أن تكون لهم آخرة ، لما عاينوا من أمر الآخرة ، فكما يئس أولئك الكفار ، كذلك يئس هؤلاء الكفار; قال : والقوم الذين غضب الله عليهم : يهود ، هم الذين يئسوا من أن تكون لهم آخرة ، كما يئس الكفار قبلهم من أصحاب القبور ، لأنهم قد علموا كتاب الله وأقاموا على الكفر به ، وما صنعوا وقد علموا .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن منصور ، في قوله : ( يئسوا من الآخرة ) . . . الآية ، قال : قد يئسوا أن يكون لهم ثواب الآخرة ، كما يئس من في القبور من الكفار من الخير ، حين عاينوا العذاب والهوان .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : قد يئس هؤلاء الذين غضب الله عليهم من اليهود من ثواب الله لهم في الآخرة ، وكرامته لكفرهم وتكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على علم منهم بأنه لله نبي ، كما يئس الكفار منهم الذين مضوا قبلهم فهلكوا ، فصاروا أصحاب القبور ، وهم [ ص: 349 ] على مثل الذي هؤلاء عليه من تكذيبهم عيسى; صلوات الله عليه وغيره من الرسل ، من ثواب الله وكرامته إياهم .

وإنما قلنا ذلك أولى القولين بتأويل الآية ، لأن الأموات قد يئسوا من رجوعهم إلى الدنيا ، أو أن يبعثوا قبل قيام الساعة - المؤمنون والكفار - فلا وجه لأن يخص بذلك الخبر عن الكفار ، وقد شركهم في الإياس من ذلك المؤمنون .

آخر تفسير سورة الممتحنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية