الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 397 ] فصل

[ قسمة الغنيمة ]

ينبغي للإمام أو نائبه أن يعرض الجيش عند دخوله دار الحرب ليعلم الفارس من الراجل ، فمن مات فرسه بعد ذلك فله سهم فارس ، وإن باعه أو وهبه أو رهنه أو كان مهرا أو كبيرا أو مريضا لا يستطيع القتال عليه فله سهم راجل ، ومن جاوز راجلا ثم اشترى فرسا فله سهم راجل ، وتقسم الغنيمة أخماسا : أربعة منها للغانمين ، للفارس سهمان ( سم ) ، وللراجل سهم ، ولا يسهم لبغل ولا راحلة ، ولا يسهم إلا لفرس واحد ( س ) ، والمملوك والصبي والمكاتب يرضخ لهم دون سهم إذا قاتلوا ، وللمرأة إن داوت الجرحى ، وللذمي إن أعان المسلمين أو دلهم على عورات الكفار والطريق ; والخمس الآخر يقسم ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، ومن كان من أهل القربى بصفتهم يقدم عليهم . وإذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فأخذوا شيئا خمس وإلا فلا ، ويجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة ، وقبل أن تضع الحرب أوزارها ، فيقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، أو من أصاب شيئا فله ربعه وبعد الإحراز ينفل من الخمس ، وسلب المقتول : سلاحه وثيابه وفرسه وآلته وما عليه ومعه من قماش ومال ، وإذا لم ينفل بالسلب فهو من جملة الغنيمة .

التالي السابق


فصل

[ قسمة الغنيمة ]

( ينبغي للإمام أو نائبه أن يعرض الجيش عند دخوله دار الحرب ليعلم الفارس من الراجل ) ليقسم بينهم بقدر استحقاقهم .

( فمن ) دخل فارسا ثم ( مات فرسه بعد ذلك فله سهم فارس ) وكذا لو أخذه العدو قبل حصول الغنيمة أو بعدها ، لأن الفارس من أوجف على بلاد العدو بفرس فدخل فارسا ، لأن المقصود إرهاب العدو دون القتال عليها ، حتى إن من دخل فارسا وقاتل راجلا استحق سهم فارس ، وإرهاب العدو إنما يحصل بالدخول لأن عنده ينتشر الخبر ويصل إليهم أنه دخل كذا كذا فارسا ، وكذا كذا راجلا ويتعذر الوقوف عليهم عند القتال لأنه وقت التقاء الصفين وتعبئة الجيوش وترتيب الصفوف ، والوقت حينئذ يضيق عن اعتبار الفارس من الراجل ومعرفتهم وكتبهم ، وقد تقع الحاجة إلى القتال راجلا في المضايق وأبواب الحصون وبين الشجر ونحو ذلك ، فوجب أن يعتبر السبب الظاهر وهو المجاوزة لحصول المقصود به على ما بينا ، ولأن الله تعالى جعل الدخول في أرض العدو كإصابة العدو بقوله : ( ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم "

[ التوبة : 120 ] .

قال : ( وإن باعه ) أي فرسه ( أو وهبه أو كان مهرا أو كبيرا أو مريضا لا يستطيع القتال عليه [ ص: 398 ] فله سهم راجل ) لأن إقدامه على هذه التصرفات ومجاوزته بفرس لا يقدر عليه القتال دليل أنه لم يكن من قصده المجاوزة للقتال فارسا . وروى الحسن عن أبي حنيفة : له سهم فارس اعتبارا للمجاوزة وصار كموته ، ولو باعه بعد القتال فله سهم فارس لحصول المقصود .

قال : ( ومن جاوز راجلا ثم اشترى فرسا فله سهم راجل ) لأن العبرة للمجاوزة لما بينا . وعن الحسن : إذا دخل وهو راجل فاشترى فرسا أو وهب له أو استأجره أو استعاره وقاتل عليه فله سهم فارس ، فصار عن أبي حنيفة في شهود الوقعة روايتان; وجه هذه الرواية أن الانتفاع بالفرس حالة القتال أكثر منها حالة المجاوزة ، فإذا استحق سهم فارس بالدخول ، فلأن يستحقه بالقتال أولى .

وإذا غزا المسلمون في السفن فأصابوا غنائم فهم ومن في البر سواء ، ويعتبر فيهم حالة المجاوزة للفارس والراجل والنبي عليه الصلاة والسلام أسهم للخيل بخيبر وكانت حصونا ، لم يقاتلوا على الخيل وإنما قاتلوا رجالة ، ولأن من في السفن يحتاج إلى الخيل إذا وصلوا جزيرة أو ساحلا فصار كما في البر .

قال : ( وتقسم الغنيمة أخماسا : أربعة منها للغانمين ، للفارس سهمان ، وللراجل سهم ) والأصل فيه قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية ، ذكر الخمس لهؤلاء ، بقيت الأربعة الأخماس للغانمين بدلالة قوله : غنمتم ، فإنه يشعر باستحقاقهم لها بالاستيلاء ، وقالا : للفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه : " أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما " ولأن الفرس يحتاج إلى من يخدمه فصاروا ثلاثة . ولأبي حنيفة أن القياس يأبى استحقاق الفرس لأنه آلة كالسلاح تركناه بالنص والنصوص مختلفة ، فروي أنه أعطى للفارس ثلاثة وروي سهمين ، وهو ما روي عن المقداد : " أن النبي عليه الصلاة والسلام أسهم له سهما ولفرسه سهما " وروى محمد بن يعقوب بن [ ص: 399 ] مجمع عن أبيه عن جده قال : " شهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت غنيمة خيبر على ثمانية عشر سهما ، كانت الخيل ثلاثمائة فرس والرجالة ألفا ومائتين ، فأعطى النبي عليه الصلاة والسلام للراجل سهما ولفرسه سهما " فلما اختلفت النصوص ، فأبو حنيفة أثبت المتفق عليه وحمل الباقي على الأصل ولأن الانتفاع بالفارس أعظم من الفرس ألا يرى أن الفارس يقاتل بانفراده ولا تأثير للفرس بانفراده; فلا يجوز أن يستحق الفرس أكثر من صاحبه ، ولأنه لا يجوز تفضيل البهيمة على الآدمي . وقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل مذهب أبي حنيفة فتعارضت روايتاه فكان ما وافق غيره أولى .

قال : ( ولا يسهم لبغل ولا راحلة ) لأنه لا يصلح للكر والفر فصار كالراجل .

( ولا يسهم إلا لفرس واحد ) وقال أبو يوسف : يسهم لفرسين لما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام أسهم لفرسين " ولأن الواحد قد يعيا فيحتاج إلى الآخر ، ولهما ما روي : " أن الزبير بن العوام حضر خيبر بأفراس فلم يسهم النبي عليه الصلاة والسلام إلا لفرس واحد " ولأن القتال على فرسين غير ممكن ، والحاجة تندفع بالواحد فصار الثاني كالثالث . وجوابه أن القياس يمنع الإسهام للخيل إلى آخر ما ذكرنا ، والعتيق من الخيل والمقرف والهجين والبرذون سواء ، لأن اسم الخيل ينطلق على الكل ، ولأن العتيق إن اختص بزيادة القوة في الطلب والهرب ، فالبرذون اختص بزيادة الثبات على حمل السلاح وكثرة الانعطاف فتساويا في المنفعة فيستويان في سبب الاستحقاق .

قال : ( والمملوك والصبي والمكاتب يرضخ لهم دون سهم إذا قاتلوا ، وللمرأة إن داوت الجرحى ، وللذمي إن أعان المسلمين أو دلهم على عورات الكفار والطريق ) والأصل أن كل من لا يلزمه القتال في غير حالة الضرورة لا يسهم له لأنه ليس من أهله ، ومن يلزمه القتال يسهم له لأنه من أهله ، لأنا لو أسهمنا للكل لسوينا بينهم ولا يجوز ، والدليل عليه ما روى أبو هريرة أنه [ ص: 400 ] عليه الصلاة والسلام كان لا يسهم للعبيد والنساء والصبيان وعن ابن عباس أنه يرضخ لهم . وقال عليه الصلاة والسلام : " لا تجعلوهم كأهل الجهاد " واستعان عليه الصلاة والسلام باليهود على اليهود فلم يسهم لهم والمرأة عاجزة عن القتال طبعا فتقوم مداواة الجرحى منها مقام القتال لما فيه من منفعة المسلمين .

والأجير إذا قاتل . قال محمد : إن ترك خدمة صاحبه وقاتل استحق السهم وإلا لا شيء له ، ولا يجتمع له أجر ونصيب في الغنيمة .

وجملته أن من دخل للقتال استحق السهم قاتل أو لم يقاتل ومن دخل لغير القتال لا يستحقه إلا أن يقاتل إذا كان من أهل القتال ، فالسوقي والتاجر دخلا للمعاش والتجارة ولم يدخلا للقتال ، فإن قاتلا صارا بالفعل كمن دخل للقتال والأجير إنما دخل لخدمة المستأجر لا للقتال ، فإذا ترك الخدمة وقاتل صار كأهل العسكر .

قال : ( والخمس الآخر يقسم ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وأبناء السبيل ، ومن كان من أهل القربى بصفتهم يقدم عليهم ) لما تلونا من الآية ، إلا أن ذكر اسم الله تعالى للتبرك في افتتاح الكلام ، إذ الدنيا والآخرة لله تعالى ، ولأن الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين لم يفردوا هذا السهم ولم ينقل عنهم ، ولما لم يفعلوه دل على ما ذكرنا ; وأما سهم النبي عليه الصلاة والسلام فكان يستحقه بالرسالة ، كما كان يستحق الصفي من المغنم ، وهو ما كان يختاره من درع أو سيف أو جارية لنفسه فسقطا بموته جميعا إذ لا رسول بعده وقال صلى الله عليه وسلم : " ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم " وكذلك الأئمة المهديون لم يفردوه بعده عليه الصلاة والسلام ، ولو بقي بعده أو استحقه غيره لصرفوه إليه .

وأما سهم ذوي القربى فإنهم كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنصرة وبعده بالفقر لما .

[ ص: 401 ] روي : " أن جبير بن مطعم وعثمان بن عفان رضي الله عنهما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم الذي وضعك الله فيهم أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك بمنزلة فقال : إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام " وهذا يدل على أن الاستحقاق بغير القرابة وإنما بكونهم معه ينصرونه ، ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بني المطلب وحرم بني أمية وهم إليه أقرب ، لأن أمية كان أخا هاشم لأبيه وأمه والمطلب أخوه لأبيه ، فلو كان الاستحقاق بالقرابة لكان بنو أمية أولى ، وبهذا تبين أن المراد قرب النصرة لا قرب النسب ، ولأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم قسموه على ثلاثة كما قلنا وكفى بهم قدوة ، وإنما يعطى من كان منهم على صفة الأصناف الثلاثة لقوله عليه الصلاة والسلام : " يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم أوساخ الناس وعوضكم عنها بخمس الخمس " والصدقة إنما حرمت على فقرائهم لأنها كانت محرمة على أغنيائهم وأغنياء غيرهم ، فيكون خمس الخمس لمن حرمت الصدقة عليه .

وما روي أن عمر رضي الله عنه كان ينكح منه أيمهم ويقضي منه غارمهم ، ويخدم منه عائلهم ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير ، وإذا ثبت أنه لا سهم لله تعالى وسهم النبي عليه الصلاة والسلام سقط ، وسهم ذوي القربى يستحقونه بالفقر ، لم يبق إلا الأصناف الثلاثة التي ذكرناها فوجب أن يقسم عليهم ، ويدخل ذوو القربى فيهم إذا كانوا بصفتهم .

قال : ( وإذا دخل جماعة لهم منعة دار الحرب فأخذوا شيئا خمس وإلا فلا ) . اعلم أن الداخل دار الحرب لا يخلو إما إن كان لهم منعة أو لا ، ولا يخلو إما إن كان بإذن الإمام أو لا ، فإن كان لهم منعة فما أخذوه يخمس ، سواء كان بإذن الإمام أو لم يكن لأنهم إنما أخذوا بقوة المسلمين ، وقد أخذوا قهرا وغلبة فكان غنيمة; ولهذا يجب على الإمام أن ينصرهم ، لأن في خذلهم وهنا للمسلمين فكان المأخوذ بقوة المسلمين فيخمس . وإن لم يكن لهم منعة فإن كان بإذن الإمام خمس ، لأن الإمام لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بإمدادهم بالعسكر فكان المأخوذ بقوة المسلمين فيخمس; وروي أنه لا يخمس لأنهم لا يقدرون على مغالبة الكفار فلا يكون [ ص: 402 ] غنيمة وإنما هو تلصص ، وإن كان بغير إذن الإمام لا يخمس لأنه ليس بغنيمة لأنه لم يؤخذ بقوة المسلمين ، ولا يلزم الإمام نصرتهم لأنه لم يأمرهم ولا وهن على الإسلام في ترك نصرتهم فلا يخمس كالذي يأخذه التاجر واللص ، وإذا لم يكن غنيمة فما أخذه كل واحد فهو له خاصة لأنه مأخوذ على أصل الإباحة كالحشيش والصيد لما مر في الشركة .

قال : ( ويجوز التنفيل قبل إحراز الغنيمة وقبل أن تضع الحرب أوزارها ، فيقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، أو من أصاب شيئا فله ربعه ) ونحو ذلك ( وبعد الإحراز ينفل من الخمس ) . اعلم أن النفل في اللغة اسم للغنيمة ، وفي الشريعة : اسم لما خصه الإمام لبعض الغزاة تحريضا لهم على القتال لزيادة قوة وجرأة منهم ، ويجوز ذلك لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نفل يوم بدر فقال : " من قتل قتيلا فله سلبه " وعن مالك أنه قال ذلك يوم خيبر ، ولما فيه من التحريض على القتال المندوب إليه بقوله تعالى : ( ياأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ولأن الشجعان يرغبون في النفل فيخاطرون بأنفسهم ويقدمون على القتال ، ولهذا قلنا إنها تجوز قبل الإحراز لأنها حينئذ تفيد التحريض والحث على القتال; أما إذا أحرزت فقد استقر حق الغانمين فيها فلا يجوز التنفيل لما فيه من إسقاط حق البعض ولأنه لا يفيد فائدة التحريض بل إقعاد عن القتال لما فيه من إبطال حق الغانمين عن بعض الغنيمة .

قال محمد : وما روي أنه عليه الصلاة والسلام : " نفل بعد الإحراز " إنما كان من الخمس أو من الصفي فغلط قوم فظنوا أن النفل يجوز بعد إحراز الغنيمة ، وما قاله محمد صحيح لأنه لا يجوز تصرف الإمام بعد الإحراز إلا في الخمس لما بينا ، ويجوز من الخمس لأنه لا حق للغانمين فيه .

قال : ( وسلب المقتول : سلاحه وثيابه وفرسه وآلته وما عليه ومعه من قماش ومال ) أما ما كان مع غلامه أو على فرس آخر من أمواله فهو غنيمة للكل ، وإذا جعل الإمام السلب للقاتل انقطع حق الباقين عنه ، إلا أنه يثبت ملكه بالإحراز على ما بينا ، ولا يخمس السلب إلا أن يقول [ ص: 403 ] فله سلبه بعد الخمس فإنه يخمس ، وكذلك إن جعل لهم الربع أو النصف أو الثلث مطلقا لم يخمس ، فإن قال : لكم الربع بعد الخمس فإنه يخمس ، ولا ينبغي للإمام أن ينفل بجميع المأخوذ ، لأن الغنيمة حق العسكر ، فإذا نفل الجميع قطع حق الضعفاء عنها وأبطل السهام التي جعلها الله تعالى في الغنيمة ، قالوا هذا هو الأولى ، فإن فعله مع سرية جاز لجواز أن تكون المصلحة في ذلك ، وإذا لم ينفل بالسلب فهو من جملة الغنيمة لا يستحقه القاتل ، قال عليه الصلاة والسلام : " ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه " .




الخدمات العلمية