الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الرابع والثمانون الفرق بين قاعدة النجاسات في الباطن من الحيوان وبين قاعدة النجاسات ترد على باطن الحيوان ) اعلم أن باطن الحيوان مشتمل على رطوبات كالدم والمذي والمني والبول وغير ذلك من الرطوبات وكذلك أثفال الغذاء والأخلاط الأربعة وهي الدم والصفراء والسوداء والبلغم وجميع ذلك في باطن الحيوان كله لا يقضي عليه بنجاسة فمن حمل حيوانا في صلاته لا تبطل صلاته فإذا انفصلت هذه الرطوبات والأثفال من باطن الحيوان فحينئذ يقبل أن يقضي عليها بالنجاسة فالدم لم أر أحدا قضى عليه بالطهارة .

وأما البول والعذرة فهما نجسان من بني آدم ومن كل حيوان يحرم أكله وأما ما يؤكل لحمه فهما منه عند مالك طاهران وعند الشافعي نجسان ومن الحيوان المكروه الأكل قيل مكروهان كاللحم وقيل نجسان تغليبا للاستقذار وأما الدم والسوداء فهما عند المالكية وغيرهم نجسان والبلغم [ ص: 120 ] والصفراء .

عند المالكية طاهران من الآدمي وغيره .

وأما المني فنجس عند مالك وطاهر عند الشافعي والمذي نجس عندهما وكذا الودي والمعدة طاهرة عند مالك نجسة عند الشافعي هذا حكم الحيوان وما في باطنه قبل انفصاله .

وأما ما حصل في باطنه من خارج من النجاسات بعد أن قضى عليه بالتنجيس فهو نجس وينجس ما ورد عليه من المعدة وغيرها فمن شرب خمرا أو أكل ميتة أو شرب بولا أو غيره من الأعيان النجسة بطلت صلاته لأنه ملابس في صلاته ما قضى الله عليه بالنجاسة وقولنا ما في باطن الحيوان لا يقضى عليه بشيء إنما يريد العلماء بذلك الذي لم يقض عليه قبل ذلك بالتنجيس أما ما قضي عليه بالتنجيس قبل ذلك فلا فرق بينه في ظاهر الجسد وفي باطنه تبطل به الصلاة فإن حدث عنه عرق يختلف في نجاسة ذلك العرق بناء على الخلاف في رماد الميتة ونحوه من النجاسات التي طرأت عليها التغيرات والاستحالات فإذا صار غذاء وأجزاء من الأعضاء لحما وعظما وغيرهما من الأعضاء فقد صار طاهرا بعد الاستحالة فكذلك نقول في البقرة الجلالة والشاة تشرب لبن خنزير ونحو ذلك إذا بعدت الاستحالة طهر كما أن الدم إذا صار منيا ثم آدميا قضي بطهارته بعد الاستحالة وما طرح من الأغذية الطاهرة في معدة الحيوان كان طاهرا عند مالك حتى يتغير إلى صفة العذرة أو يختلط بنجاسة من عرق ينشر في باطن الجسد ونحوه وعند الشافعي كل ما يصل إلى المعدة يتنجس بها لأنها عنده نجسة وعرض ها هنا فرع وهو جبن الروم فإنهم يعملونه بالإنفحة وهم لا يذكون بل الإنفحة ميتة قال المالكية المحققون هو نجس لذلك وقال بعض الفقهاء هو طاهر لأن المعدة طاهرة واللبن الذي يشربه فيها طاهر فيكون الجبن طاهرا وهذا ليس بجيد لأن بالموت صار جرم المعدة نجسا فينجس اللبن الكائن فيه فيصير الجبن نجسا

[ ص: 121 ] والذي رأيت عليه فتاوى العلماء في العصر تحريمه وتنجيسه بناء على هذا إذا تقررت هذه المباحث فيكون سر الفرق بين ما ينشأ في باطن الحيوان من النجاسات وبين ما ورد عليه من النجاسات أن الذي نشأ فيه أصله الطهارة فاستصحبت والوارد قد قضى عليه بالنجاسة قبل أن يرد فكان الأصل فيه النجاسة فاستصحبت فاستصحاب الحال فيهما أوجب الحكمين المختلفين

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 107 - 119 ] قال ( الفرق الرابع والثمانون بين قاعدة النجاسات في الباطن من الحيوان وبين قاعدة النجاسات ترد على باطن الحيوان إلى قوله [ ص: 120 ] هذا حكم الحيوان وما في باطنه قبل انفصاله ) قلت ما قاله في ذلك وحكاه صحيح .

قال ( أما ما حصل في باطنه من خارج من النجاسات بعد أن قضى عليه بالتنجيس فينجس ما ورد عليه من المعدة وغيرها فمن شرب خمرا أو أكل ميتة أو شرب بولا أو غيره من الأعيان النجسة بطلت صلاته لأنه ملابس في صلاته ما قضى الله عليه بالنجاسة إلى قوله فلا فرق بينه في ظاهر الجسد وفي باطنه تبطل به الصلاة ) قلت لم أقف لأحد غيره على ما قاله هنا من بطلان صلاة من في جوفه نجاسة وردت عليه ولا أراه صحيحا . قال ( فإن حدث عنه عرق يختلف في نجاسة ذلك العرق إلى قوله لأنها عنده نجسة ) قلت ما قاله هنا وحكاه صحيح .

قال ( وعرض ها هنا فرع وهو جبن الروم إلى قوله [ ص: 121 ] والذي رأيت عليه فتاوى العلماء في العصر تحريمه وتنجيسه بناء على هذا ) قلت ما قاله من أن الروم لا يذكون قد حكى بعض الناس أن منهم من يذكي وعلى تقدير أنهم لا يذكون ليست الإنفحة متعينة لعقد الجبن فإنه قد يعقد بغيرها مما هو طاهر كبعض الأعشاب فإذا ثبت أن الروم لا يذكون وأن الطائفة الذين يكون الجبن المعين جبنهم لا يذكون وأنهم لا يعقدون بغير الإنفحة فلا شك أن القول ما ارتضاه وحكاه وإذا لم يثبت شيء من ذلك ووقع الاحتمال فهو موضع خلاف العلماء والأقوى نقلا ونظرا الجواز وعدم التنجيس والله أعلم .

قال ( إذا تقررت هذه المباحث فيكون سر الفرق بين ما ينشأ في باطن الحيوان من النجاسات وبين ما ورد عليه من النجاسات أن الذي نشأ فيه أصله الطهارة فاستصحبت والوارد قد قضى عليه بالنجاسة قبل أن يرد فكان الأصل فيه النجاسة فاستصحبت فاستصحاب الحال فيهما أوجب الحكمين المختلفين ) قلت لا شك أن عين ما في الباطن هو عين ما في الخارج من العذرة والبول وغيرهما فإذا حكم لما في الباطن من ذلك بالطهارة فيلزم أن يحكم لما في الخارج بالطهارة لأنه عين ما كان في الباطن ولما لم يحكم لما في الخارج بالطهارة إجماعا دل ذلك على أنه لم يحكم لما في الباطن بالطهارة لأن أصله الطهارة بل لأمر آخر هذا إن سلم أن حكم ما في الباطن الطهارة لكنه لقائل أن يقول ليس ما في الباطن من ذلك بطاهر بل هو نجس لكنه عفي عنه لتعذر الوصول إلى إزالته وإذا كان ما على المخرج معفوا عنه مع إمكان الإزالة دفعا لمشقة الإزالة مع إمكانها فأحرى أن يعفى عما تعذرت فيه الإزالة والداعي إلى هذا الكلام واختياره دون ما اختاره أن عين ما في الخارج هو عين ما في الباطن مع أنه يحتمل أن يقال بطهارته في الباطن دون الظاهر وبالجملة فكلامه ليس بالقوي ولا الظاهر والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الرابع والثمانون بين قاعدة النجاسات في الباطن من الحيوان وبين قاعدة النجاسات ترد على باطن الحيوان ) اعلم أن الفرق بينهما إما أن يبني على أن عين ما في الباطن هو عين ما في الخارج من العذرة والبول وغيرهما وأنه إذا حكم لما في الباطن من ذلك بالطهارة لزم أن يحكم لما في الخارج بها أيضا وأنه لما لم يحكم لما في الخارج بالطهارة إجماعا عادل ذلك على أنه لم يحكم لما في الباطن بالطهارة بل هو نجس فيكون سره أنه عفي عما في الباطن لتعذر الوصول إلى إزالته ضرورة أن العفو عما تعذرت فيه الإزالة أحرى من عفوهم عما على المخرج وقد أمكنت إزالته مع المشقة دفعا للمشقة فافهم وأما أن يبني على أن عين ما في الباطن وإن كان عين ما في الخارج إلا أنه يحتمل أن يقال بطهارته في الباطن دون الظاهر فيكون سره هو أن استصحاب الحال فيهما أوجب الحكمين المختلفين وذلك أن الذي نشأ في باطن الحيوان أصله الطهارة فاستصحب والوارد على باطنه قد قضي عليه بالنجاسة قبل أن يرد فكان الأصل فيه النجاسة فاستصحبت وتفصيل ذلك أن جميع ما اشتمل عليه باطن الحيوان من الرطوبات كالدم والمذي والمني والبول وغير ذلك وكذلك أثفال الغذاء والأخلاط الأربعة التي هي الدم والصفراء والسوداء والبلغم لا يقضي عليه كله ما دام في الباطن بنجاسة فلا تبطل صلاة من حمل حيوانا فيها فإذا انفصلت هذه الرطوبات والأثفال من باطن الحيوان قبلت أن يقضي عليها بالنجاسة فالدم والسوداء لم يقض أحد بطهارتهما وقضى بنجاسة البول والعذرة من بني آدم ومن كل حيوان يحرم أكله وبطهارتهما مما يباح أكله كالنعم عند مالك فقط خلافا للأئمة .

وأما من مكروه الأكل كالسبع والهرة فقيل مكروهان كاللحم وقيل نجسان تغليبا للاستقذار وبطهارة البلغم والصفراء من الآدمي وغيره عند المالكية كالمني عند الشافعي فقط خلافا للأئمة وبنجاسة المذي والودي وبطهارة المعدة عند مالك وبنجاستها عند الشافعي فعنده كل ما يصل إليها من الأغذية الطاهرة يتنجس بها وعند مالك لا يتنجس حتى يتغير إلى صفة العذرة أو يختلط بما في باطن الجسد من نجاسة وكل ما قضى عليه بالتنجيس قبل وروده على باطن الحيوان قضى عليه بذلك بعد وروده عليه إذ لا فرق حينئذ بينه في ظاهر الجسد وفي باطنه فإن حدث [ ص: 147 ] عن ذلك عرق ففي نجاسة ذلك العرق وطهارته خلاف مبني على الخلاف في رماد الميتة ونحوه من النجاسات التي طرأت عليها التغيرات والاستحالات .

وأما إذا صار ما ورد على باطن الحيوان غذاء من النجاسة لحما وعظما وغيرهما من الأعضاء فإنه يصير طاهرا يبعد الاستحالة كما أن الدم إذا صار منيا ثم آدميا فإنه يكون يبعد هذه الاستحالة ظاهرا وكذا ما تغذت به البقرة الجلالة من النجاسة ولبن الخنزير تشربه الشاة يطهر إذا بعدت الاستحالة قال ابن الشاط وقول الأصل ببطلان صلاة من في جوفه نجاسة وردت عليه قبل استحالتها لحما وعظما لم أقف عليه لأحد غيره ولا أراه صحيحا .

قال وقوله إن الروم لا يذكون فينجس جبنهم ويحرم لأنهم يعلمون بالإنفحة كما قاله محققو المالكية وهو الذي رأيت عليه فتاوى العلماء في العصر غير ظاهر على إطلاقه فقد حكى بعض الناس أن منهم من يذكي وعلى تقدير أنهم لا يذكون ليست الإنفحة متعينة لعقد الجبن فإنه قد يعقد بغيرها مما هو طاهر كبعض الأعشاب وحينئذ فلا يظهر ما ارتضاه وحكاه بلا شك إلا إذا ثبت أن الطائفة الذين يكون الجبن المعين جبنهم لا يذكون وإنهم لا يعقدون بغير الإنفحة أما إذا لم يثبت شيء من ذلك ووقع الاحتمال فهو موضع خلاف العلماء والأقوى نقلا ونظرا الجواز وعدم التنجيس والله أعلم .




الخدمات العلمية