الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ) : مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الفريقين : [ ص: 103 ] فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند الله مجملا من غير تفصيل ، فصل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تاليا لآيات الله ، ومبينا لهم طريق الهدى ، ومطهرا لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذا لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها . وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة . ثم فصل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى .

ومعنى " من " : تطول وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه . فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم . فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أن ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنه من عند الله ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة . ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي .

وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ؛ لأنه ليس حي من أحياء العرب إلا له فيهم نسب من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب ؛ لنصرانيتهم . قاله النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفا لهم على سائر الأمم .

ويكون معنى " من أنفسهم " : أي من جنسهم عربيا مثلهم . وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده . قال ابن عباس وقتادة : قال " من أنفسهم " لكونه معروف النسب فيهم ، معروفا بالأمانة والصدق . قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان . وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم . انتهى .

والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذ كان اللسان واحدا ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه . وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به . وقرئ شاذا : لمن من الله على المؤمنين [ ص: 104 ] بمن الجارة و " من " مجرور بها بدل " قد من " . قال الزمخشري : وفيه وجهان : أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة . أو يكون " إذ " في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما ، بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه . انتهى .

أما الوجه الأول فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ) ( وما منا إلا له مقام ) ( ومنا دون ذلك ) على قول . وأما الوجه الثاني فهو فاسد ؛ لأنه جعل " إذ " مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفا أو مضافا إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول . أما أن تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت ، تريد وقت قيام زيد طويل . وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين . انتهى كلامه . وأما قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ؛ لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ . إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك . وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع . فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبرا في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا . وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما ، فهذا في غاية الفساد ؛ لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري . ونص أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أن هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده . وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو .

وقرأ الجمهور : " من أنفسهم " بضم الفاء ، جمع نفس . وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : " من أنفسهم " بفتح الفاء من النفاسة والشيء النفيس . وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وروى علي عنه - عليه السلام - : " أنا من أنفسكم نسبا وحسبا وصهرا ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح ، كلها نكاح والحمد لله " .

قيل : والمعنى من أشرفهم ؛ لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريشا ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد - صلى الله عليه وسلم - . وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وضئضئ معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتا محجوجا ، وحرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل . وقال ابن عباس : ما خلق الله نفسا هي أكرم على الله من محمد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : " لعمرك " .

( يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) : تقدم تفسير هذه الجمل .

( وإن كانوا من قبل ) : أي من قبل بعثه .

( لفي ضلال ) : [ ص: 105 ] أي حيرة واضحة فهداهم به . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم الكلام عليها وعلى اللام في قوله : (وإن كانت لكبيرة ) والخلاف في ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا . وقال الزمخشري : إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإن الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين . انتهى . وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين . وأما سيبويه فإنه قال : إن مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين . فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث ، ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف . نحويا ذهب إليه . إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت : إن زيدا قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان ، أحدهما : جواز الإعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر . ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب . والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر ، لا ملفوظ به ولا مقدر ألبتة . فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر ، فنقول : إن زيد لقائم ، ومدلوله مدلول إن زيدا قائم . وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء . وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم . والجملة من قوله : " وإن كانوا " حالية . والظاهر أن العامل فيها هو : " ويعلمهم " ، فهو حال من المفعول .

التالي السابق


الخدمات العلمية