الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 122 ] ( الفرق الخامس والثمانون الفرق بين قاعدة المندوب الذي لا يقدم على الواجب وقاعدة المندوب الذي يقدم على الواجب ) اعلم أن القاعدة والغالب أن الواجب يكون أفضل من المندوب وإليه الإشارة بقوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها } الحديث في مسلم وغيره قد صرح الحديث بأن الواجب أفضل من غيره ومتى تعارض الواجب والمندوب قدم الواجب على المندوب وباعتبار هذه القاعدة ورد سؤال مشكل وهو أن السنة وردت بالجمع بين الصلاتين للظلام والمطر والطين وهذا الجمع يلزم منه تقديم المندوب على الواجب وذلك أن الجماعة يلحقهم ضرر بخروجهم من المسجد إلى بيوتهم وعودهم لصلاة العشاء وكذلك إذا قيل لهم أقيموا في المسجد حتى يدخل وقت العشاء حتى تصلوها وهذا الضرر يندفع بأحد أمرين إما بتفويت فضيلة الجماعة بأن يخرجوا الآن ويصلوا في بيوتهم أفذاذا وإما بأن يصلوا الآن الصلاتين على سبيل الجمع فتفوت مصلحة الوقت وتأخير الصلاة إلى وقتها واجب فضاع الواجب بالجمع فلو حفظ هذا الواجب ضاع المندوب الذي فضيلة الجماعة فقد تعارض واجب ومندوب في دفع هذه الضرورة عن المكلف فقدم المندوب على الواجب فحصل وترك الواجب فذهب وهو خلاف القاعدة [ ص: 123 ]

والمعهود في الشريعة دفع الضرر بترك الواجب إذا تعين طريقا لدفع الضرر كالفطر في رمضان وترك ركعتين من الصلاة لدفع ضرورة السفر وكذلك يستعمل المحرم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف وتساغ الغصة بشرب الخمر كذلك وذلك كله لتعين الواجب أو المحرم طريقا لدفع الضرر أما إذا أمكن تحصيل الواجب أو ترك المحرم مع دفع الضرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات لا يتعين ترك الواجب ولا فعل المحرم ولذلك لا يترك الغسل بالماء ولا القيام في الصلاة ولا السجود لدفع الضرر والألم والمرض إلا لتعينه طريقا لدفع ذلك الضرر وهذا كله قياس مطرد [ ص: 124 ]

وقد خولف هذا القياس بالجمع المتقدم ذكره وترك الواجب وفعل المندوب في دفع الضرر وكذلك الجمع بعرفة ترك فيه واجبان أحدهما تأخير الصلاة لوقتها وهي العصر فتقدم وتصلى مع الظهر مع إمكان الجمع في تحصيل مصلحة الوقت ودفع الضرر وثانيهما ترك الجمعة إذا جاءت يوم عرفة ويصلى الظهر أربعا فترك الواجب أيضا لا لدفع الضرر لأنه يندفع بالجمع بين العصر والجمعة كما يندفع بالجمع بين الظهر والعصر ولذلك لما حج هارون الرشيد ومعه أبو يوسف واجتمعا بمالك في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقع البحث في ذلك فقال أبو يوسف إذا اجتمع الجمعة والظهر يوم عرفة قدمت الجمعة لأنها أفضل وواجبة قبل الظهر مع الإمكان قال له مالك إن ذلك خلاف السنة فقال له أبو يوسف من أين لك ذلك وأنه [ ص: 125 ] خلاف السنة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس ركعتين قبلهما خطبة وهذه هي صلاة الجمعة فقال له مالك جهر فيهما أو أسر فسكت أبو يوسف فظهرت الحجة لمالك رضي الله عنهم أجمعين بسبب الإسرار لأن الجمعة جهرية فلما صلى عليه السلام ركعتين سرا دل ذلك على أنه صلى الظهر سفرية وترك الجمعة والخطبة ليوم عرفة لا ليوم الجمعة لأن عرفة إنما خطبته لتعليم الناس مناسك الحج كانت في يوم الجمعة أم لا والجواب عن الجمع وترك الجمعة بعرفة أيسر من الجواب عن الجمع ليلة المطر .

أما الجواب عن عرفة وترك الجمعة فلأن الغالب على الحجيج السفر وفرض المسافر الظهر دون الجمعة فجعل النادر تبعا للغالب فمن هو مقيم بعرفة أو منزله قريب من عرفة فترك الجمعة على هذا التقدير ليس ترك الواجب .

وأما ترك تأخير الصلاة إلى وقتها وهي العصر فلضرورة الحجاج في ذلك اليوم للإقبال على الدعاء والابتهال والتقرب اللائق بعرفة وهو يوم لا يكاد يحصل في العمر إلا مرة بعد ضنك الأسفار وقطع البراري والقفار وإنفاق الأموال من الأقطار البعيدة والأوطان النائية فناسب أن يقدم هذا على مصلحة وقت العصر ويكون هذا ضررا يوجب التقديم كما يوجب فوات الزمان التقديم في حق المسافر يجمع بين الصلاتين بل هذا أعظم من فوات الزمان لأن الإنسان يمكنه أن لا يسافر أو يسافر معه رفقة موافقين على النزول في أوقات الصلوات فهو ضرر يمكن التحرز منه من حيث الجملة أما مصالح الحج فأمر لازم للعبد ولا خروج له عنها ولا يمكن العدول عنها إلى غيرها فهذا جواب يمكن أن يقال في جمع عرفة دون جمع ليلة المطر .

وأما جمع المسافر والمريض إذا خاف الغلبة على عقله آخر الوقت فهو متعين لدفع الضرر بخلاف جمع المطر لم يتعين ترك الواجب لدفع الضرر ولو لم يجمع المسافر والمريض ضاع الواجب آخر الوقت وهو الصلاة الأخيرة بغيبة العقل وضرورة المرض أو دخل الضرر بفوات الرفاق والجمع ليلة المطر لو ترك إنما يفوت المندوب الذي هو الجماعة .

وأما الصلوات فتصلى على أفضل الأحوال في البيوت عند دخول الأوقات فهذا جمع يختص بهذا السؤال القوي والجواب عنه إذا حصل يقوي الجواب يوم عرفة فنشرع في الجواب عنه فإنه من الأسئلة المشكلة فنقول إن المندوبات قسمان قسم تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب وهذا هو الغالب [ ص: 126 ] فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة حتى يكون أدنى المصالح يترتب عليه الثواب ثم تترقى المصلحة والندب وتعظم رتبته حتى يكون أعلى رتب المندوبات تليه أدنى رتب الواجبات وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها أدنى رتب المكروهات ثم تترقى المفاسد والكراهة في العظم حتى يكون أعلى رتب المكروهات يليه أدنى رتب المحرمات هذا هو القاعدة العامة ثم إنه قد وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات وثوابها أعظم من ثواب الواجبات وذلك يدل على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات لأن الأصل في كثرة الثواب وقلته كثرة المصالح وقلتها ألا ترى أن ثواب التصدق بدينار أعظم من ثواب التصدق بدرهم لأنه أعظم مصلحة وسد خلة الوالي الصالح أعظم من سد خلة الفاسق الطالح لأن مصلحة بقاء الولي والعالم في الوجود لنفسه وللخلق أعظم من مصلحة الفاسق وعلى هذا القانون [ ص: 127 ] هذه هي القاعدة العامة في غالب موارد الشريعة مع أنه قد وقع في الشريعة مواضع مستوية في المصلحة وأحدها أكثر ثوابا كقراءة الفاتحة داخل الصلاة أكثر ثوابا من قراءتها خارج الصلاة لوجوبها داخل الصلاة وشاة الزكاة الواجبة أعظم ثوابا من شاة صدقة التطوع مع مساواتها لنفسها ودينار الزكاة أكثر ثوابا من دينار صدقة التطوع .

وهو في الشريعة قليل ولله تعالى أن يفضل أحد المتساويين على الآخر بإرادته مع أنه يجوز أن يكون في أحد هذين المتساويين مصلحة لم يطلع عليها أحد بسبب قصد الوجوب فيه أو وقوعه في حيز الواجب إذا ظهر أن كثرة الثواب تدل على كثرة المصلحة غالبا أو مطلقا فأذكر من المندوبات التي فضلها الشرع على الواجبات سبع صور : الصورة الأولى إنظار المعسر بالدين واجب وإبراؤه منه مندوب إليه وهو أعظم أجرا من الإنظار لقوله تعالى { وأن تصدقوا خير لكم } فجعله أفضل من الإنظار وسبب ذلك أن [ ص: 128 ] مصلحته أعظم لاشتماله على الواجب الذي هو الإنظار فمن أبرئ مما عليه فقد حصل له الإنظار وهو عدم المطالبة في الحال .

الصورة الثانية { صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين صلاة } أي بسبع وعشرين مثوبة مثل مثوبة صلاة المنفرد كذلك خرجه مسلم في صحيحه وهذه السبع والعشرون مثوبة هي مضافة لوصف صلاة الجماعة خاصة ألا ترى أن من صلى وحده ثم صلى في جماعة حصلت له مع أن الإعادة في جماعة غير واجبة عليه فصار وصف الجماعة المندوب أكثر ثوابا من ثواب الصلاة الواجبة وهو مندوب فضل واجبا فدل ذلك على أن مصلحته عند الله تعالى أكثر من مصلحة الواجب . الصورة الثالثة للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة في غيره بألف مثوبة مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الذي هو الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الواجب الذي هو أصل الصلاة وذلك يدل على أن الصلاة في هذا المكان أعظم مصلحة عند الله تعالى وإن كنا لا نعلم ذلك . الصورة الرابعة { الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في غيره } كما خرجه الثقات ابن عبد البر وغيره مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل الصلاة من حيث هي صلاة . الصورة الخامسة الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة مع أن الصلاة فيه غير واجبة فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل [ ص: 129 ] الصلاة .

الصورة السادسة روي أن { صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك } مع أن وصف السواك مندوب إليه ليس بواجب فقد فضل المندوب الواجب الذي هو أصل الصلاة ويؤكد ذلك قوله عليه السلام في الحديث الآخر { لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة } قال بعض العلماء هذا يدل على أن مصلحته تصلح للإيجاب ولكن ترك الإيجاب رفقا بالعباد . الصورة السابعة الخشوع في الصلاة مندوب إليه لا يأثم تاركه فهو غير واجب مع أنه قد ورد في الصحيح قوله عليه السلام { إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } وروي { وما فاتكم فاقضوا } قال بعض العلماء إنما أمر بعدم الإفراط في السعي لأنه إذا قدم على الصلاة عقيب شدة السعي يكون عنده انبهار وقلق يمنعه من الخشوع [ ص: 130 ] اللائق بالصلاة فأمره عليه السلام بالسكينة والوقار واجتناب ما يؤدي إلى فوات الخشوع وإن فاتته الجمعة والجماعات وذلك يدل على أن مصلحة الخشوع أعظم من مصلحة وصف الجمعة والجماعات مع أن الجمعة واجبة فقد فضل المندوب الواجب في هذه الصورة فهي على خلاف القاعدة العامة التي تقدم تقريرها التي شهد لها الحديث في قوله تعالى { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } الحديث .

إذا تقرر هذا وظهر أن بعض المندوبات قد تفضل الواجبات في المصلحة فنقول إنا حيث قلنا إن الواجب يقدم على المندوب والمندوب لا يقدم على الواجب حيث كانت مصلحة الواجب أعظم من مصلحة المندوب أما إذا كانت مصلحة المندوب أعظم ثوابا فإنا نقدم المندوب على الواجب كما تقدم في الخشوع وغيره فإذا وجدنا الشرع قدم مندوبا على واجب فإن علمنا أن مصلحة ذلك المندوب أكثر فلا كلام حينئذ وإن لم نعلمها استدللنا بالأثر على المؤثر وقلنا ما قدم صاحب الشرع هذا المندوب على هذا الواجب إلا لمصلحة ومصلحته أعظم من مصلحة الواجب لأنا استقرينا الشرائع [ ص: 131 ] فوجدناها مصالح على وجه التفضل من الله تعالى ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا سمعتم قراءة كتاب الله تعالى فاستمعوا فإنه إنما يأمركم بخير وينهاكم عن شر فحيث لم نعلم ذلك قلنا هو كذلك طرد القاعدة الشرع في رعاية المصالح ولما وردت السنة الصحيحة بالجمع بين الصلاتين وقدم فيه المندوب الذي هو وصف الجماعة على الواجب الذي هو الوقت قلنا هذا المندوب أعظم مصلحة من ذلك الواجب أو مساو للواجب فخير الشرع بينهما وجعل له اختيار أحدهما فاندفع السؤال حينئذ .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 122 ] قال ( الفرق الخامس والثمانون بين قاعدة المندوب الذي لا يقدم على الواجب وقاعدة المندوب الذي يقدم على الواجب إلى قوله فتفوت مصلحة الوقت ) قلت ما ذكره وقرره هنا صحيح كما قرر

. قال ( وتأخير الصلاة إلى وقتها واجب فضاع الواجب بالجمع فلو حفظ هذا الواجب ضاع المندوب الذي هو فضيلة الجماعة فقد تعارض واجب ومندوب في دفع هذه الضرورة عن المكلف فقدم المندوب على الواجب فحصل وترك الواجب فذهب وهو خلاف القاعدة ) قلت ما قاله هنا ليس بصحيح فإن تأخير الصلاة إلى وقتها في الحال التي شرع فيها الجمع وتقديم الصلاة الثانية إلى وقت الأولى ليس بواجب أصلا بل هو جائز والتقديم أولى لتحصيل فضل الجماعة فلم يضع واجب بالجمع ولا تعارض واجب ومندوب ولا قدم مندوب على واجب ولا خولفت في ذلك القاعدة وإنما حمله على ما قاله ذهاب وهمه إلى أن تأخير الصلاة إلى وقتها واجب على الإطلاق وليس الأمر كذلك بل تأخير الصلاة إلى وقتها ليس واجبا على الإطلاق بل هو واجب فيما عدا الحال التي شرع فيها الجمع فإنه ليس تأخيرها إلى وقتها من الواجب بل هو جائز [ ص: 123 ]

قال ( والمعهود في الشريعة دفع الضرر بترك الواجب إذا تعين طريقا لدفع الضرر كالفطر في رمضان وترك ركعتين من الصلاة لدفع ضرورة السفر ) قلت ومتى كان ترك الصوم في السفر طريقا متعينا لدفع ضرر السفر في مذهبنا والمختار عند إمامنا الصوم والفطر جائز ومتى كان ترك الركعتين أيضا طريقا متعينا والإتمام سائغ بل ضرر السفر جائز الدفع بذلك وإذا كان الدفع بذلك جائزا فالمكلف مخير في إيقاع الصوم في حال السفر وتأخيره إلى وقت آخر مع اختيار الصوم وكذلك هو مخير في القصر والإتمام مع اختيار القصر فإذا أفطر لم يترك واجبا وإذا قصر كذلك ومن زعم أن المسافر إذا أفطر ترك واجبا لزمه إنكار الواجب الموسع ومن زعم أن المسافر إذا قصر ترك واجبا لزمه إنكار الواجب المخير .

قال ( وكذلك يستعمل المحرم لدفع الضرر كأكل الميتة لدفع ضرر التلف وتساغ الغصة بشرب الخمر كذلك وذلك كله لتعين الواجب أو المحرم طريقا لدفع الضرر ) قلت إذا أكل المضطر الميتة أو شرب الغاص الخمر فلم يفعل واحد منهما محرما بل فعل واجبا وما هذا الكلام كله إلا كلام من ذهب وهمه إلى أن الحكم الشرعي وصف حقيقي فالتحريم لا يفارق الميتة والخمر بحال وذلك وهم باطل وغلط واضح لا شك فيه .

قال ( أما إذا أمكن تحصيل الواجب أو ترك المحرم مع دفع الضرر بطريق آخر من المندوبات أو المكروهات لا يتعين ترك الواجب ولا فعل المحرم ) قلت لا يتعين ترك واجب ولا فعل محرم إلا بمعنى ما كان واجبا في غير هذه الحال ومحرما كذلك ثم قال ( ولذلك لا يترك الغسل بالماء ولا القيام في الصلاة ولا السجود لدفع الضرر والألم والمرض إلا لتعينه طريقا لدفع الضرر وهذا كله قياس مطرد ) قلت إذا تعين ترك ما ذكره طريقا لدفع الضرر صارت تلك الواجبات غير واجبة وهذا كله قياس مطرد [ ص: 124 ]

قال ( وقد خولف هذا القياس بالجمع المتقدم ذكره وترك الواجب وفعل المندوب في دفع الضرر ) قلت إن أراد ترك الواجب في غير هذه الحال فذلك صحيح ولا يفيده ذلك مقصوده وإن أراد ترك الواجب في حال شرعية الجمع فليس تأخير الصلاة إلى وقتها بواجب فلم يترك واجبا بل صارت الأخيرة في هذه الحال من الواجب الموسع بالنسبة إلى وقتها ووقت الأولى ومن فعل الواجب الموسع في أول أجزاء وقته الموسع لم يترك واجبا أصلا وإنما السبب فيما ارتكبه ذهاب الوهم إلى أن تأخير الصلاة إلى وقتها واجب على الإطلاق وأن تأخير الصلاة هو بعينه الواجب وليس تأخير الصلاة إلى وقتها واجبا على الإطلاق ولا هو بعينه الواجب أما كونه ليس واجبا على الإطلاق فلما قد سبق بيانه .

وأما كونه ليس هو بعينه الواجب فلأن الواجب إنما هو الصلاة والتأخير والتقديم أمران إضافيان فمتى نسب الوجوب إلى التأخير أو إلى التقديم فليس على ظاهره بل المقصود بوجوب التأخير وجوب فعل الصلاة مؤخرة وبوجوب التقديم وجوب فعلها مقدمة وإذا كان الأمر كذلك فلا يخفى على من فهم شيئا من مقاصد الشرع أن المكلف في حال المطر مخير بين إيقاع صلاة العشاء مقدمة قبل وقتها المحدود لها في غير هذه الحال إيثارا لإحراز فضيلة الجماعة وبين إيقاعها فذا في وقتها المذكور ولا غرو في التخيير بين أمر راجح ومرجوح وفاضل ومفضول كما في خصال الكفارة فإن العتق أرجحها لرجحان قيمة الرقبة على قيمة الكسوة والإطعام في غالب العادة بل كما في رقبة قيمتها ألف ورقبة قيمتها مائة وكما في التخيير بين إطالة سجود الصلاة وتقصيره وذلك لا يحصى كثرة في الشريعة .

قال ( وكذلك الجمع بعرفة ترك فيه واجبان إلى منتهى قوله [ ص: 125 ] فنشرع في الجواب عنه فإنه من الأسئلة المشكلة ) قلت ما قاله ذلك صحيح لا بأس به .

قال ( فنقول إن المندوبات قسمان قسم تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب وهذا هو الغالب [ ص: 126 ] فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة إلى قوله هذا هو القاعدة العامة ) قلت ما قال صحيح على تسليم أن الأوامر تتبع المصالح والنواهي تتبع المفاسد ولقائل أن يقول إن الأمر بالعكس وهو أن المصالح تتبع الأوامر والمفاسد تتبع النواهي أما في المصالح والمفاسد الأخروية فلا خفاء به فإن المصالح هي المنافع ولا منفعة أعظم من النعيم المقيم والمفاسد هي المضار ولا ضرر أعظم من العذاب المقيم .

وأما في المصالح والمفاسد الدنيوية فعلى ذلك دلائل من الظواهر الشرعية كقوله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وكقوله تعالى { واتقوا الله ويعلمكم الله } وكقوله صلى الله عليه وسلم { من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه } إلى أمثال ذلك مما لا يكاد ينحصر وبالجملة فهذا الموضع محل نظر هذا إن كان يريد بالتبعية حصول هذه بعد حصول هذه وإن أراد بذلك أن الأوامر وردت لتحصل عند امتثالها المصالح وأن النواهي وردت لترتفع عند امتثالها المفاسد فذلك صحيح .

قال ( ثم إنه قد وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات وثوابها أعظم من ثواب الواجبات وذلك يدل على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات ) قلت ما قاله في ذلك ليس بمسلم ولا صحيح .

قال ( لأن الأصل في كثرة الثواب وقلته كثرة المصالح وقلتها ألا ترى أن ثواب التصدق بدينار أعظم من ثواب التصدق بدرهم لأنه أعظم مصلحة وسد خلة الولي الصالح أعظم من سد خلة الفاسق الطالح إلى قوله [ ص: 127 ] هذه هي القاعدة العامة في غالب موارد الشرع ) قلت ما ذكره من أن ثواب التصدق بدينار أكثر ثوابا من التصدق بدرهم مسلم صحيح لكن على شرط الاستواء في حال المتصدق والمتصدق عليه من كل وجه أما عند تفاوت حال المتصدق والمتصدق عليه فلا لما في قوله صلى الله عليه وسلم { سبق درهم مائة ألف } وقد تقدم الكلام فيه .

قال ( مع أنه قد وقع في الشريعة مواضع مستوية في المصالح وأحدها أكثر ثوبا كقراءة الفاتحة داخل الصلاة إلى قوله إذا ظهر أن كثرة الثواب تدل على كثرة المصلحة غالبا أو مطلقا فاذكر من المندوبات التي فضلها الشرع على الواجبات سبع صور ) قلت ما قاله من استواء مصلحة فاتحة الكتاب داخل الصلاة وخارجها غير مسلم ولم يأت على ذلك بحجة وما قاله من أن لله تعالى أن يفضل أحد المتساويين على الآخر بإرادته صحيح وكذلك ما قاله من أنه يجوز أن يكون في أحد هذين المتساويين مصلحة لم يطلع عليها أحد بسبب قصد الوجوب فيه أو وقوعه في حيز الواجب .

قال ( الصورة الأولى إنظار المعسر بالدين واجب وإبراؤه منه مندوب إليه إلى آخرها ) قلت ما قاله في ذلك ليس بمسلم ولا بصحيح بل الإنظار أعظم أجرا من جهة أنه واجب والقاعدة أن الواجب أعظم أجرا من المندوب بدليل الحديث المتقدم ولا معارض له وما استدل به من قوله تعالى { وأن تصدقوا خير لكم } نقول بموجبه ولا يلزم منه مقصوده وما قاله من أن مصلحة الإبراء أعظم لاشتماله على الواجب الذي هو الإنظار ليس بصحيح لأن الإنظار تأخير الطلب بالدين وهو مستلزم لطلب الدين بعد والإبراء إسقاط بالكلية وهو مستلزم لعدم طلبه بعد فكيف يصح أن يكون ما يستلزم عدم الطلب متضمنا لما [ ص: 128 ] يستلزم الطلب .

قال ( الصورة الثانية صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين صلاة إلى آخرها ) قلت ليست الجماعة متفضلة عن الصلاة بل الجماعة وصف للصلاة فضلت به على وصف الانفراد فصلاة المكلف إذا فعلها في جماعة وقعت واجبة وإذا فعلها وحده وقعت كذلك غير أنه أحد الواجبين أعظم أجرا من الآخر ولا ينكر مثل ذلك وأما أن يقال إن صلاة الظهر مثلا إذا أوقعها المكلف في جماعة فكونها صلاة ظهر هو الواجب وكونها في جماعة هو المندوب فذلك ليس بصحيح بوجه لأن كونها في جماعة ليس منفصلا من كونها ظهرا بل هي ظهر وهي في جماعة .

قال ( الصورة الثالثة الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من ألف صلاة في غيره إلى آخرها ) قلت إن كانت الصلاة التي تصلى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واجبة فهي تفضل تلك الصلاة بنفسها إذا صليت في غيره وإن كانت نافلة فهي تفضل تلك الصلاة بنفسها إذا صليت في غيره .

قال ( الصورة الرابعة الصلاة في المسجد الحرام إلى آخرها ) قلت الكلام في هذه الصورة كالكلام في التي قبلها .

قال ( الصورة الخامسة الصلاة في بيت المقدس إلى آخرها ) قلت وهذه الكلام فيها أيضا كالكلام فيما قبلها [ ص: 129 ] وحقيقته أن إيقاع الصلاة في مكان ما ليس غير الصلاة حتى يصح أن يقال إن إيقاعها في ذلك المكان مندوب وهي في نفسها واجبة ولكن إيقاع الصلاة في المكان هو نفس الصلاة وتوهم الانفصال أوجب الغلط في مثل هذه الصورة .

قال ( الصورة السادسة روي أن { صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك } إلى آخر الصورة ) قلت ما قاله من أن وصف السواك مندوب صحيح ولكن جعل الشارع الصلاة مع السواك بسبعين صلاة بغير سواك أي فيها ثواب سبعين صلاة بدون سواك فالسواك وإن كان مندوبا سبب في تضعيف ثواب الواجب ولا يلزم من ذلك أن هذا المندوب خير من أصل الصلاة لأجل كونه سببا في تضعيف ثوابها وبيان ذلك أن نص الشارع لا يقتضي أن هذا التضعيف ثواب للسواك وإنما يقتضي أن التضعيف ثواب للصلاة المصاحبة للسواك وما ذهب إليه من أن المندوب الذي هو السواك خير من أصل الصلاة لا دليل عليه من الحديث ولا من غيره .

قال ( الصورة السابعة الخشوع في الصلاة مندوب إليه لا يأثم تاركه فهو غير واجب مع أنه ورد في الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام { إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } وروي { وما فاتكم فاقضوا } قال بعض العلماء إنما أمر بعدم الإفراط في السعي لأنه إذا قدم على الصلاة عقيب شدة السعي يكون عنده انبهار وقلق يمنعه من الخشوع [ ص: 130 ] اللائق بالصلاة فأمره عليه السلام بالسكينة والوقار واجتناب ما يؤدي إلى فوات الخشوع وإن فاتته الجمعة والجماعات إلى قوله في الحديث { ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } الحديث ) قلت لا يتعين ما قاله ذلك العالم من كون عدم السكينة موجبا لعدم الخشوع سببا للأمر بالسكينة حتى يلزم عن ذلك ترك الواجب الذي هو صلاة الجمعة للمندوب الذي هو الخشوع بل لقائل أن يقول إن الأمر بالسكينة إنما كان لأن ضدها المنهي عنه الذي هو شدة السعي شاغل للبال مناف للحضور الذي هو شرط في صحة الصلاة بحسب الوسع فإذا كانت شدة السعي من كسبه فعدم الحضور المسبب عن الشغل بآثار شدة السعي من الانبهار والقلق من كسبه فليس في الحديث على هذا الوجه ما يدل على تقديم مندوب ولا تفضيله على واجب بل فيه النهي عن التسبب إلى الإخلال بشرط الواجب مع أن منافاة القلق والانبهار للخشوع ليس بالأمر الواضح وإن ثبتت المنافاة بينهما فإنما ذلك من منافاة الحضور إذ الحضور شرط في الخشوع والله أعلم .

قال ( إذا تقرر هذا وظهر أن بعض المندوبات قد تفضل الواجبات في المصلحة إلى قوله [ ص: 131 ] طرد القاعدة الشرع في رعاية المصالح ) قلت لم يتقرر ما قال ولا أقام عليه حجة ولا يصح بناء على قاعدة رعاية المصالح فإنه إذا كانت المصلحة في أمر ما أعظم منها في أمر آخر وبلغ إلى حد مصالح الواجبات فالذي يناسب رعاية المصالح أن يكون الأعظم مصلحة على الوجه المذكور واجبا والأدنى مصلحة مندوبا أما أن يكون الأعظم مصلحة مندوبا ويكون الأدنى مصلحة واجبا فليس بمناسب لرعاية المصالح بوجه .

قال ( ولما وردت السنة الصحيحة بالجمع بين الصلاتين وقدم فيه المندوب الذي هو وصف الجماعة على الواجب الذي هو الوقت قلنا هذا المندوب أعظم مصلحة من ذلك الواجب إلى آخر ما قاله في هذا الفرق ) قلت لم يقدم المندوب على الواجب ولا يصح على قاعدة مراعاة المصالح أن يكون أعظم مصلحة من الواجب والله أعلم



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس والثمانون بين قاعدة المندوب الذي لا يقدم على الواجب وقاعدة المندوب الذي يقدم على الواجب ) المندوب الذي لا يقدم على الواجب هو ما لم تعرض ضرورة لا تندفع إلا بتقديمه عليه فيقدم الواجب حينئذ عليه جريا على القاعدة الأغلبية من تقديمه عليه لأنه أفضل منه ففي مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن الله تعالى { ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها } الحديث فقد صرح بأن الواجب أفضل من غيره والمندوب الذي يقدم على الواجب هو ما دعت الضرورة التي لا تندفع إلا بتقديمه على الواجب إلى تقديمه عليه على خلاف القاعدة المذكورة وله مثل منها الجمع للمسافر وكذا للمريض إذا خاف الغلبة على عقله آخر الوقت فهو متعين لرفع الضرر

ومنها الظهر والعصر عند الزوال يوم عرفة فإنه مندوب قدم على واجبين أحدهما تأخير الصلاة لوقتها وهي العصر ترك لأن الجمع لضرورة الحجاج في ذلك اليوم للإقبال على الدعاء والابتهال والتقرب اللائق بعرفة وهو يوم لا يكاد يحصل في العمر إلا مرة بعد ضنك الأسفار وقطع البراري والقفار وإنفاق الأموال من الأقطار البعيدة والأوطان النائية ناسب أن يقدم على مصلحة وقت العصر لأن فوات الزمان هنا للضرورة المذكورة أعظم من فوات الزمان بجمع التقديم بين الصلاتين للمسافر لضرورة السفر لأن الإنسان يمكنه أن لا يسافر أو يسافر معه رفقة موافقون على النزول في أوقات الصلوات فهو ضرر يمكن التحرز منه من حيث الجملة بخلاف ضرورة مصالح الحج فإنها أمر لازم للعبد لا خروج له عنها ولا يمكنه العدول عنها إلى غيرها .

وثانيها ترك الجمعة إذا جاءت يوم عرفة لأنها وإن كانت أفضل وواجبة قبل الظهر مع الإمكان كما قال أبو يوسف [ ص: 148 ] للإمام مالك لما اجتمع به في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عام حجه مع هارون الرشيد إلا أن مالكا قال له إن ذلك خلاف السنة فقال له أبو يوسف من أين لك ذلك وأنه خلاف السنة وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ركعتين قبلهما خطبة .

وهذه هي صلاة الجمعة فقال له مالك جهر فيهما أو أسر فسكت أبو يوسف وظهرت الحجة لمالك رضي الله تعالى عنهم أجمعين بسبب الإسرار لأن الجمعة جهرية فلما صلى عليه السلام ركعتين سرا دل ذلك على أنه صلى الظهر سفرية وترك الجمعة وإن الخطبة ليوم عرفة ولو لم يكن يوم الجمعة لتعليم الناس مناسك الحج لا ليوم الجمعة وذلك لأن الغالب على الحجيج السفر وفرض المسافر الظهر دون الجمعة فجعل النادر وهو المقيم بعرفة ومن منزلته قريب منها تبعا للغالب في ترك الجمعة فترك الجمعة على هذا التقدير ليس ترك الواجب وليس من مثله الجمع بين المغرب والعشاء للظلام والمطر والطين الذي وردت به السنة أما أولا فلأن تأخير الصلاة إلى وقتها ليس واجبا على الإطلاق بل هو واجب فيما عدا الحال التي شرع فيها الجمع أما في الحال التي شرع فيها الجمع كما هنا فليس تأخير صلاة العشاء مثلا إلى وقتها من الواجب بل هو جائز كما أن تقديمها إلى وقت الأولى ليس بواجب أصلا بل هو جائز إلا أن تقديمها لتحصيل فضل الجماعة أولى من تأخيرها إلى وقتها فلم يضع واجب بالجمع ولا قدم مندوب على واجب ولا خولفت في ذلك القاعدة المذكورة .

وأما ثانيا فلأنا لو سلمنا أن تأخير العشاء إلى وقتها واجب هنا أيضا وأن هذا الواجب إنما ضاع بالمندوب الذي هو وصف الجماعة لما يلحق الجماعة من الضرر الحاصل إما بخروجهم من المسجد إلى بيوتهم وعودهم لصلاة العشاء وإما بإقامتهم في المسجد حتى يدخل وقت العشاء ويصلوها لا نسلم أن هذا الضرر لا يندفع إلا بالجمع لجواز دفعه بغيره أيضا وهو تفويت فضيلة الجماعة بأن يخرجوا الآن ويصلوا في بيوتهم أفذاذا فقد تعارض واجب ومندوب في دفع هذه الضرورة عن المكلف والمعهود في الشريعة أن محل دفع الضرر بترك الواجب وتقديم المندوب عليه إذا تعين ذلك طريقا لدفع الضرر وإلا وجب تقديم الواجب وترك المندوب على القاعدة .

وأما ثالثا فلأنا ولو سلمنا أنه مع هذا التعارض وعدم تعين ترك الواجب طريقا لدفع الضرر ولا يجب تقديم الواجب مطلقا لأن المندوبات قسمان قسم تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب .

وهذا هو الغالب فإن أوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة حتى يكون أدنى رتب المصالح والندب يترتب عليه الثواب ثم تترقى المصلحة والندب وتعظم رتبته حتى يكون أعلى رتب المندوبات تليه أدنى رتب الواجبات وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها أدنى رتب المكروهات ثم تترقى المفاسد والكراهة في العظم حتى يكون أعلى رتب المكروهات يليه أدنى المحرمات وقسم من المندوبات لا تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب بل تارة يساوي الواجب وتارة يفضله فيها فما ورد في الشريعة من تقديم المندوبات على الواجب كما هنا فإن المندوب الذي هو أداء العشاء في جماعة يجمعها مع العشاء قدم على الواجب [ ص: 149 ] الذي هو أداؤها في وقتها يجب حمله على هذا القسم سواء أعلمنا أن مصلحة ذلك المندوب أعظم ثوابا من مصلحة ذلك الواجب أو أنهما متساويان فيها أو لم نعلم ذلك أما إذا علمنا أن مصلحته أكثر كما في المندوبات التي وجد في الشريعة أنها أعظم من الواجبات وأن ثوابها أعظم من ثواب الواجبات فدلنا ذلك على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات فلا كلام كما إذا علمنا التساوي لأن لله تعالى أن يفضل أحد المتساويين على الآخر بإرادته على أنه يجوز أن يكون في أحد المتساويين مصلحة لم يطلع عليها أحد بسبب قصد الوجوب فيه أو وقوعه في حيز الواجب .

وأما إذا لم نعلم ذلك فلأنا نستدل بالأثر على المؤثر ونقول ما قدم صاحب الشرع هذا المندوب على هذا الواجب إلا لكون مصلحته أعظم من مصلحة الواجب وذلك لأنا استقرينا الشريعة فوجدناها مصالح على وجه التفضل من الله تعالى .

ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا سمعتم قراءة كتاب الله تعالى فاستمعوا فإنه إنما يأمركم بخير وينهاكم عن شر هذا كلام الأصل ملخصا إلا أنا نقول قوله إن أوامر الشرع تتبع المصالح ونواهيه تتبع المفاسد محل نظر ولقائل أن يقول إن الأمر بالعكس وهو أن المصالح تتبع الأوامر والمفاسد تتبع النواهي أما في المصالح والمفاسد الأخروية فلا خفاء به فإن المصالح هي المنافع ولا منفعة أعظم من النعيم المقيم والمفاسد هي المضار ولا ضرر أعظم من العذاب المقيم .

وأما في المصالح والمفاسد الدنيوية فعلى ذلك دلائل من الظواهر الشرعية كقوله تعالى { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وكقوله تعالى { واتقوا الله ويعلمكم الله } وكقوله صلى الله عليه وسلم { من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه } إلى أمثال ذلك مما لا يكاد ينحصر نعم إن أراد بذلك أن الأوامر وردت لتحصل عند امتثالها المصالح وإن النواهي وردت لترتفع عند امتثالها المفاسد فذلك صحيح وقوله إنه وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات وثوابها أعظم من ثواب الواجبات فدلنا ذلك على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات فليس بمسلم ولا صحيح فإن القاعدة أن الواجب أعظم من المندوب بدليل الحديث المتقدم ولا معارض له .

وما استدل به من قوله تعالى { وأن تصوموا خير لكم } نقول بموجبه ولا يلزم منه مقصوده والمناسب للبناء على رعاية المصالح أن يكون الأعظم مصلحة بحيث يبلغ إلى حد مصالح الواجبات واجبا والأدنى مصلحة مندوبا أما أن يكون الأعظم مصلحة مندوبا والأدنى مصلحة واجبا فليس بمناسب لرعاية المصالح بوجه وما مثل به من الصور السبع على أنه من تلك المندوبات فلا يصح شيء منه .

أما الصورة الأولى فإن الأعظم فيها أجرا إنما هو إنظار المعسر بالدين من جهة أنه واجب لا كما قال من أن الأعظم أجرا هو إبراؤه منه من جهة اشتماله على الواجب الذي هو الإنظار إذ كيف يصح أن يكون الإبراء الذي هو إسقاط للطلب بالكلية ومستلزم لعدم طلبه بعد متضمنا للإنظار الذي هو تأخير الطلب بالدين ومستلزم لطلبه بعد وأما الصورة الثانية فلأن صلاة المكلف نحو الظهر إذا فعلها في جماعة وقعت واجبة .

وإذا فعلها وحده وقعت كذلك فليس فيها إلا أن أحد الواجبين أعظم أجرا من الآخر [ ص: 150 ] وكونها في جماعة ليس منفصلا من كونها ظهرا حتى إنه هو المندوب بل هي ظهر وهي في جماعة وأما الصورة الثالثة والرابعة والخامسة فلأن الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام أو في بيت المقدس إن كانت واجبة فهي تفضل على نفسها إذا صليت في غيره وإن كانت نافلة فهي تفضل على نفسها إذا صليت في غيره فليس في هذه الصورة إلا أن أحد الواجبين أو أحد المندوبين أعظم من الآخر .

وأما الصورة السادسة فلأن ما روي من أن صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك لا يقتضي أن هذا التضعيف ثواب السواك الذي هو مندوب وإنما يقتضي أن التضعيف ثواب الصلاة المصاحبة للسواك فلا دليل لا من الحديث ولا من غيره على أن المندوب الذي هو السواك خير من أصل الصلاة .

وأما الصورة السابعة فلأن قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح { إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا } وروي { وما فاتكم فاقضوا } ليس فيه ما يدل على تقديم مندوب وتفضيله على واجب إلا على احتمال أن الأمر بالسكينة والوقار واجتناب الإفراط في السعي الذي يكون عند المكلف عقيبه انبهار وقلق يمنعه من الخشوع اللائق بالصلاة .

وإن فاتته الجمعة والجماعات وأما على احتمال أن الأمر بالسكينة إنما كان لأن ضده المنهي عنه الذي هو شدة السعي شاغل للبال مناف للحضور الذي هو شرط في صحة الصلاة بحسب الوسع فيكون عدم الحضور من كسبه لكونه مسببا عما هو من كسبه الذي هو الشغل بآثار شدة السعي من الانبهار والقلق فليس فيه ما يدل على ذلك بل فيه النهي عن التسبب إلى الإخلال بشرط الواجب ولا دلالة مع الاحتمال على أن منافاة القلق والانبهار للخشوع ليس بالأمر الواضح إذ ثبوتها بينهما إنما هو عن منافاة الحضور الذي هو شرط في الخشوع فافهم أفاده ابن الشاط والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية