الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم الآية ؛ روى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله قال : " هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر " .

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن مهران الدينوري قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبد الله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر : قوله تعالى : كونوا قوامين بالقسط قد [ ص: 272 ] أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل ، وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه ؛ لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ، ثم أكد ذلك بقوله : شهداء لله يعني والله أعلم : فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة ؛ فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وإيصاله إليه ، وهو مثل قوله تعالى : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه ، بقوله تعالى : ولو على أنفسكم لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه ، فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق .

وقوله تعالى : أو الوالدين والأقربين فيه أمر بإقامة الشهادة على الوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه ؛ لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة ، وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما ، وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك ؛ لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال صلى الله عليه وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز ، وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى ؛ لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك .

وقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه ، فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع ، فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم .

وقوله تعالى : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء ، وهو نظير قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره ، وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه .

وقوله تعالى : وإن تلووا أو تعرضوا فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس : " أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون [ ص: 273 ] ليه وإعراضه على أحدهما " . واللي هو الدفع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ، يعني مطله ودفع الطالب عن حقه . فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها ، وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا لاحتمال اللفظ لهما ، فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار أحدهما والخلوة به ، كما روي عن علي كرم الله وجهه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر .

التالي السابق


الخدمات العلمية