الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 292 ] ( باب دعوى النسب ) ( وإذا باع جارية فجاءت بولد ) فادعاه البائع [ ص: 293 ] فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم باع فهو ابن للبائع وأمه أم ولد له ( وفي القياس هو قول زفر والشافعي رحمهما الله دعوته باطلة ) لأن البيع اعتراف منه بأنه عبد فكان في دعواه مناقضا ولا نسب بدون الدعوى . وجه الاستحسان أن اتصال العلوق بملكه شهادة ظاهرة على كونه منه لأن الظاهر عدم الزنا . ومبنى النسب على الخفاء فيعفى فيه التناقض ، وإذا صحت الدعوى استندت إلى وقت العلوق فتبين أنه باع أم ولده فيفسخ البيع لأن بيع أم الولد لا يجوز ( ويرد الثمن ) لأنه قبضه بغير حق [ ص: 294 ] ( وإن ادعاه المشتري مع دعوة البائع أو بعده فدعوة البائع أولى ) لأنها أسبق لاستنادها إلى وقت العلوق وهذه دعوة استيلاد ( وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوة البائع ) لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه تيقنا وهو الشاهد والحجة ( إلا إذا صدقه المشتري ) فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح ، ولا يبطل البيع لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق ولا حقه ، وهذه دعوة تحرير وغير المالك ليس من أهله . [ ص: 295 ] ( وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوة البائع فيه إلا أن يصدقه المشتري ) لأنه احتمل أن لا يكون العلوق في ملكه فلم توجد الحجة فلا بد من تصديقه ، وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر والأم أم ولد له كما في المسألة الأولى لتصادقهما واحتمال العلوق في الملك

[ ص: 292 ]

التالي السابق


[ ص: 292 ] باب دعوى النسب ) لما فرغ من بيان دعوى الأموال شرع في بيان دعوى النسب ، وقدم الأول لأنه أكثر وقوعا فكان أهم ذكرا ( قال ) أي القدوري في مختصره ( وإذا باع جارية بولد فادعاه البائع ) اعلم أن صاحب العناية قصد بيان ضابطة جنس هذه المسائل في ابتداء الكلام فقال أخذا من غاية البيان : اعلم أن البائع إذا ادعى ولد الجارية المبيعة أو المشتري ، فإما إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع أو لأكثر من سنتين أو لما بين المدتين . وكل وجه على أربعة أوجه : إما إن ادعى البائع وحده أو المشتري وحده أو ادعياه معا أو على التعاقب انتهى .

أقول : يرى فيه اختلال من وجهين : الأول أنه قسم ادعاء البائع أو المشتري ولد الجارية المبيعة إلى ثلاثة أوجه ، وهي : إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع ، أو لأكثر من سنتين ، أو لما بين المدتين . وقسم كل وجه منها إلى أربعة وجوه وهي : إذا ادعى البائع وحده أو المشتري وحده أو ادعيا معا ، أو على التعاقب ، فيلزم منه أن يكون الشيء قسم قسيمة حيث جعل ادعاء البائع والمشتري مقسما ثم جعله قسما واحدا من كل واحد من أقسامه الأربعة .

والثاني أن كلمة أو الداخلة على المشتري في قوله إن البائع إذا ادعى ولد الجارية المبيعة أو المشتري تأبى دخول ادعائهما معا أو على التعاقب في المقسم فكيف يجعل هذان الوجهان داخلين في أقسام أقسامه ؟ ويمكن أن يتحمل عن الأول بأن المقسم ادعاء البائع أو المشتري مطلقا : أي أعم من ادعاء أحدهما منفردا ومن ادعائه منضما إلى الآخر بالمعية أو التعاقب ، وقسم القسم هو ادعاء أحدهما وحده أو ادعاؤهما معا أو على التعاقب ، فيكون قسم القسم أخص من المقسم لا عينه . وعن الثاني بأن تحمل كلمة أو المذكورة على منع الخلو دون منع الجمع .

والأولى عندي في بيان الضابطة هاهنا أن يقال : اعلم أن الجارية إذا بيعت فجاءت بولد ، فأما إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع أو لأكثر من سنتين أو لما بين المدتين ، وكل وجه من الأوجه الثلاثة [ ص: 293 ] على أربعة أوجه ، أما إن ادعى ذلك الولد البائع وحده أو المشتري وحده أو ادعياه معا أو على التعاقب ( فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم باع ) وقد ادعاه البائع وحده كما مر في الكتاب ( فهو ) أي الولد ( ابن البائع وأمه ) أي أم الولد ( أم ولد له ) أي البائع ( وفي القياس وهو قول زفر والشافعي دعوته ) أي دعوة البائع ( باطلة لأن البيع اعتراف منه ) أي من البائع ( بأنه ) أي الولد ( عبد وكان ) أي البائع ( في دعواه مناقضا ) والتناقض يبطل الدعوى فلا تسمع دعواه ، كما لو قال كنت : أعتقتها أو أدبرتها قبل أن أبيعها ( ولا نسب بدون الدعوى ) أي ولا ثبوت للنسب بدون الدعوى الصحيحة ( وجه الاستحسان ) أي وجه الاستحسان الذي نعمل به في هذه المسألة ( أن اتصال العلوق بملكه شهادة ظاهرة على كونه منه ) يعني أنا تيقنا باتصال العلوق بملك البائع ، وهذا شهادة ظاهرة على كون الولد من البائع ( لأن الظاهر عدم الزنا ) فنزل ذلك منزلة البينة في إبطال حق الغير عنها وعن ولدها ( ومبنى النسب على الخفاء ) هذا جواب عن التناقض .

وبيانه أن الإنسان قد لا يعلم ابتداء بكون العلوق منه ثم يتبين أنه منه ( فيعفى فيه التناقض ) أي لا يمنع صحة الدعوى ; كما أن الزوج إذا أكذب نفسه بعد قضاء القاضي بنفي النسب باللعان يثبت منه النسب ويبطل حكم الحاكم ولا ينظر إلى التناقض لمكان الخفاء في أمر العلوق ، وصار كالمكاتب إذا أقام البينة أن مولاه كان أعتقه قبل الكتابة فإنه تقبل بينته وتبطل الكتابة ، ولا يعتبر التناقض لخفاء الإعتاق حيث ينفرد المولى به ، وكالمختلعة إذا أقامت البينة أن الزوج كان طلقها ثلاثا قبل الخلع فإن بينتها تقبل مع التناقض لخفاء الطلاق حيث ينفرد الزوج به ، بخلاف دعوى البائع الإعتاق أو التدبير بعد البيع ، فإن كل واحد من الإعتاق والتدبير فعل نفسه ولا يخفى عليه ، كذا حققوا ( وإذا صحت الدعوى استندت إلى وقت العلوق فتبين أنه باع أم ولده ففسخ البيع لأن بيع أم الولد لا يجوز ، ويرد الثمن ) أي إن كان منفردا ( لأنه قبضه بغير حق ) فإن سلامة الثمن مبنية على سلامة المبيع ، كذا في الكافي ، وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته وثبت النسب منه لأن دعوته دعوة تحرير والمشتري يصح منه التحرير ، فكذا دعوته لحاجة الولد إلى النسب وإلى الحرية ، وتثبت لها أمية الولد بإقراره ، ثم لا يصح من البائع دعوته لأن الولد قد استغنى عن النسب لما ثبت نسبه من المشتري ، كذا في العناية وغيرها .

أقول : لقائل أن يقول : صحة التحرير من المشتري ظاهرة ; لأن الجارية مملوكته في الحال فيملك إعتاقها وإعتاق ولدها كما صرح به في النهاية وغيرها .

وأما صحة دعوته لحاجة الولد إلى النسب فمشكلة بما مر في وجه الاستحسان من أنا تيقنا باتصال العلوق بملك البائع ، وهذا شهادة ظاهرة على كون الولد من البائع ، فإن مجرد حاجة الولد إلى النسب كيف يفيد ثبوت النسب من المشتري عند تحقق الشهادة الظاهرة على خلاف ذلك . ويمكن أن يجاب بأن تيقنا باتصال العلوق بملك البائع إنما يكون شهادة ظاهرة على كون الولد من البائع إذا ادعاه البائع . وأما إذا لم يدعيه البائع فلا يجوز الولد من غيره [ ص: 294 ] بالنكاح ، فإذا ادعاه المشتري وحده يحمل على كونه منه بالنكاح قبل الاشتراء لحاجة الولد إلى النسب فصارت علة صحة دعوة المشتري وثبوت النسب منه في هذه الصورة حاجة الولد إلى النسب مع إمكان كونه منه بالنكاح قبل الاشتراء ، ويؤيد هذا ما ذكره صدر الشريعة في شرح الوقاية حيث قال : لو ادعى المشتري قبل دعوة البائع يثبت النسب من المشتري ويحمل على أن المشتري نكحها واستولدها ثم اشتراها انتهى .

( وإن ادعاه المشتري مع دعوة البائع أو بعده ) أي بعد دعوة البائع ذكر الضمير بتأويل الادعاء ( فدعوة البائع أولى لأنها أسبق ) أما إذا كانت قبل دعوة المشتري فالأمر ظاهر ، وأما إذا كانت بعد دعوة المشتري فلما أشار إليه بقوله : ( لاستنادها إلى وقت العلوق وهذه دعوة استيلاد ) يعني أن دعوة البائع مستندة إلى وقت العلوق لأنها دعوة استيلاد ، ودعوة المشتري مقتصرة على الحال لأنها دعوة تحرير فكانت دعوة البائع سابقة معنى فكانت أولى ، ثم إنه ضمن قوله : وهذه دعوة استيلاد الجواب عن دخل مقدر تقديره كيف تصح دعوة البائع وهو غير مالك في الحال . وجه الجواب أن دعوته دعوة استيلاد وهي لا تفتقر إلى قيام الملك في الحال لأنها تستند إلى زمان الملك ، بخلاف دعوة التحرير على ما سيجيء ( وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لم تصح دعوة البائع لأنه لم يوجد اتصال العلوق بملكه تيقنا وهو الشاهد والحجة ) يعني أن الشاهد على كون الولد منه إنما هو اتصال العلوق بملكه تيقنا ولم يوجد ذلك هاهنا فلم تصح دعوته ( إلا إذا صدقه المشتري فيثبت النسب ويحمل على الاستيلاد بالنكاح ) حملا لأمره على الصلاح ، وقول المشتري على الصدق ( ولا يبطل البيع لأنا تيقنا أن العلوق لم يكن في ملكه فلا يثبت حقيقة العتق ) أي للولد ( ولا حقه ) أي ولا يثبت حق العتق وهو أمومية الولد للأم فيبقى الولد عبدا للمشتري ولا تصير الأم أم ولد البائع كما إذا ادعاه أجنبي آخر ، كذا في الكافي وغيره ( وهذه ) أي دعوة البائع هاهنا ( دعوة تحرير وغير المالك ليس من أهله ) أي ليس من أهل التحرير والبائع ليس بمالك فلا تصح دعوة التحرير منه .

[ ص: 295 ] اعلم أن الدعوة نوعان : دعوة استيلاد ودعوة تحرير ; فدعوة الاستيلاد هي أن يكون علوق المدعى في ملك المدعي وهذه الدعوة تستند إلى وقت العلوق وتتضمن الإقرار بالوطء فيتبين أنه علق حرا ، ودعوة التحرير أن يكون علوق المدعى في غير ملك المدعي وهذه الدعوة تقتصر على الحال ولا تتضمن الإقرار بالوطء لعدم تصور الاستيلاد لعدم الملك وقت العلوق ، كذا في البدائع .

وإن ادعاه المشتري وحده في هذا الوجه صحت دعوته ، وإن ادعياه معا أو متعاقبا صح دعوة المشتري دون البائع لأنه كالأجنبي ، كذا في العناية وغيرها ( وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر من وقت البيع ولأقل من سنتين لم تقبل دعوة البائع فيه ) أي في هذا الوجه ( إلا أن يصدقه المشتري لأنه احتمل أن لا يكون العلوق في ملكه ) أي في ملك البائع ( فلم توجد الحجة ) وهي اتصال العلوق بملكه تيقنا ( فلا بد من تصديقه ) أي من تصديق المشتري إياه ( وإذا صدقه يثبت النسب ويبطل البيع والولد حر . والأم أم ولد له كما في المسألة الأولى ) وهي إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم باع ( لتصادقهما واحتمال العلوق في الملك ) وإن ادعاه المشتري وحده في هذا الوجه صحت دعوته لأن دعوته صحيحة حالة الانفراد فيما لا يحتمل العلوق في ملكه ففيما يحتمله أولى ، وتكون دعوته دعوة استيلاء حتى يكون الولد حر الأصل ولا يكون له ولاء على الولد لأن العلوق في ملكه ممكن ، وإن ادعياه معا أو متعاقبا فالمشتري أولى لأن البائع في هذه الحالة كالأجنبي ، وهذا الذي ذكر له إذا كانت مدة الولادة بعد البيع معلومة . أما إذا لم يعلم أنها جاءت بالولد لأقل من أقل مدة الحمل أو لأكثر من أكثرها أو لما بينهما فالمسألة على أربعة أوجه أيضا : فإن ادعاه البائع وحده لا تصح دعوته إلا أن يصدقه المشتري لعدم تيقن العلوق في ملكه ، وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته لأن أكثر ما في الباب كون العلوق في ملك البائع بأن جاءت به لأقل من ستة أشهر ، ولكن هذا لا يمنع دعوة المشتري . وإن ادعياه معا لم تصح دعوة واحد منهما ويكون الولد عبدا للمشتري ; لأنها إن جاءت به لأقل المدة كان النسب للبائع ، وإن جاءت به لأكثر من أقل المدة كان النسب للمشتري فوقع الشك في ثبوته فلا يثبت .

وإن ادعياه متعاقبا ، فإن سبق المشتري صحت دعوته ، وإن سبق البائع لم تصح دعوة واحد منهما لوقوع الشك في ثبوت النسب من كل واحد منهما ، كذا في غاية البيان نقلا عن مبسوط شيخ الإسلام خواهر زاده ، كذا في العناية . قال في الكافي : ولو تنازعا فالبينة للمشتري ، أي إذا باع أمه فولدت عند المشتري فقال البائع : بعتها منك منذ شهر والولد مني وقال المشتري : بعتها مني لأكثر من ستة أشهر والولد ليس منك فالقول للمشتري بالاتفاق ; لأن البائع يدعي انتقاض البيع والمشتري ينكر ، فإن أقاما البينة فالبينة للمشتري أيضا عند أبي يوسف لأنه أثبت زيادة مدة في الشراء ، وعند محمد البينة للبائع لأنه يثبت نسب [ ص: 296 ] الولد واستيلاد الأمة وانتقاض البيع فكان أكثر إثباتا انتهى .




الخدمات العلمية