الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان لا شيء من الرحمة أبلغ ولا أدل على القدرة من إيصال بعض صفات الخالق إلى المخلوق نوع إيصال ليتخلقوا به بحسب ما يمكنهم منه فيحصلوا على الحياة الأبدية والسعادة السرمدية قال: علم القرآن أي المرئي المشهود بالكتابة والمتلو [المسموع] الجامع لكل خير، الفارق بين كل لبس، وكان القياس [يقتضي] أن لا يعلم المسموع أحد لأنه صفة من صفاته، وصفاته في العظم كذاته، وذاته غيب محض، لأن الخلق أحقر من أن يحيطوا به علما، "وأين الثريا من يد المتناول" فدل تعليمه القرآن على أنه يقدر أن يعلم ما أراد من أراد وعلم آدم الأسماء كلها ولا يخفى ما في تقديمه على جميع النعم من المناسبة لأن [أجل النعم] نعمة الدين التي تتبعها نعمة الدنيا والآخرة، وهو أعلى مراتب، فهو سنام الكتب السماوية وعمادها ومصداقها والعبار عليها، وفائدتها الإيصال إلى مقعد الصدق المتقدم لأنه بين ما يرضي الله ليعمل به وما يسخطه ليجتنب.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام جعفر بن الزبير: من المعلوم أن الكتاب العزيز [ ص: 142 ] وإن [كانت] آيه كلها معجزة باهرة وسوره في جليل النظم وبديع التأليف قاطعة بالخصوم قاهرة، فبعضها أوضح من بعض في تبين إعجازها، وتظاهر بلاغتها وإيجازها: ألا ترى إلى تسارع الأفهام إلى الحصول على بلاغة آيات وسور من أول وهلة دون كبير تأمل كقوله تعالى: وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وقوله: فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين الآيات، لا يتوقف في باهر إعجازها إلا من طبع الله على قلبه أو سد دونه باب الفهم فأنى له بولوجه وقرعه، وسورة القمر من هذا النمط، ألا ترى اختصار القصص فيه مع حصول أطرافها وتوفية أغراضها، وما جرى مع كل قصة من الزجر والوعظ والتنبيه والإعذار، ولولا أني لم أقصد التعليق ما بنيته عليه من ترتيب السور لأوضحت ما أشرت إليه مما لم أسبق إليه، ولعل الله سبحانه ييسر ذلك فيما باليد من التفسير نفع الله به ويسر فيه، فلما انطوت هذه السورة على ما ذكرنا وبان فيها عظيم الرحمة في تكرر القصص وشفع العظات، وظهرت حجة الله على الخلق، وكان ذلك من أعظم ألطافه تعالى لمن يسره لتدبر القرآن ووفقه لفهمه واعتباره، أردف ذلك سبحانه بالتنبيه على هذه النعمة فقال تبارك وتعالى: الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان وخص من أسمائه الحسنى هذا الاسم إشعارا برحمته بالكتاب وعظيم إحسانه به وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم قد تمهد أن سورة القمر إعذار ومن أين للعباد بجميل [ ص: 143 ] هذا اللطف وعظيم هذا الحلم حتى يرادوا إلى بسط الدلالات وإيضاح البينات إن تعذر إليهم زيادة في البلاغ، فأنبأ تعالى أن هذا رحمة فقال: الرحمن علم القرآن ثم إذا تأملت سورة القمر وجدت خطابها وإعذارها خاصا ببني آدم بل بمشركي العرب منهم فقط، فأتبعت سورة القمر بسورة الرحمن تنبيها للثقلين وإعذارا إليهم وتقريرا للجنسين على ما أودع سبحانه في العالم من العجائب والبراهين الساطعة فتكرر فيها التقرير والتنبيه بقوله تعالى: فبأي آلاء ربكما تكذبان خطابا للجنسين وإعذارا للثقلين فبان اتصالها بسورة القمر أشد البيان - انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية