الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب استتابة المرتد قال الله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا قال قتادة : " يعني به أهل الكتابين من اليهود والنصارى ؛ آمن اليهود بالتوراة ، ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ، وآمن النصارى بالإنجيل ، ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ، ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : " هي في المنافقين : آمنوا ثم ارتدوا ، ثم آمنوا ثم ارتدوا ، ثم ماتوا على كفرهم " .

وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام ، وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به ، وقد بين الله أمرهم في قوله : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون

قال أبو بكر : هذا يدل على أن المرتد الذي تاب تقبل توبته وأن توبة الزنديق مقبولة ؛ إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد [ ص: 274 ] أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان . واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر : " في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ، ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه " .

وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإسلام قال أبو حنيفة : " أستتيبه كالمرتد ، فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته " ، وقال أبو يوسف كذلك زمانا ، فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال : " أرى إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه ، فإن تاب قبل أن أقتله خليته " . وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال : " إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته] حتى أعلم توبته " .

وذكر محمد في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة : " أن المرتد يعرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه ، إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام " ولم يحك خلافا .

قال أبو جعفر الطحاوي : وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال : قال أبو حنيفة : " اقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف " ، ولم يحك أبو يوسف خلافه . وقال أبو القاسم عن مالك : " المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل ، وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة ، وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه " قال مالك : " يقتل الزنادقة ولا يستتابون ، والقدرية يستتابون " فقيل لمالك : فكيف يستتاب القدرية ؟ قال : " يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا " .

وروى مالك عن زيد بن أسلم قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : من غير دينه فاضربوا عنقه ؛ قال مالك : هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقر به ، لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية ؛ قال مالك : وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه ، وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني . وقال الحسن بن صالح : " يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة " .

وقال الليث : " الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ، ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة " . وقال الشافعي : " يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق ، وإن لم يتب قتل " .

وفي الاستتابة ثلاثا قولان :

أحدهما : حديث عمر ، والآخر أنه لا يؤخر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بأناة ؛ وهذا ظاهر الخبر . قال أبو بكر : روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال : " يستتاب المرتد ثلاثا " ثم قرأ : إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية ؛ وروي [ ص: 275 ] عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته ؛ إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل ، وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية ، وقال تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره ، فظاهره يقتضي دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ، ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة ؛ وقال تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ؛ ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له ، وكذلك قوله : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره ، فظاهره يقتضي قبول إسلامه .

فإن قيل : قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف لا دلالة فيه على زوال القتل عنه ؛ لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة .

قيل له : قوله تعالى : إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته ؛ لأن توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة ، وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة .

وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر ، فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه ؟ كذلك الزنديق .

وقد روي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه : سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فأنزل الله : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله تعالى : إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فكتبوا بها إليه ، فرجع فأسلم ؛ فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله ، فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه .

وقوله من قال : إني لا أعرف توبته إذا كفر سرا ، فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده ؛ لأن ذلك لا نصل إليه ، وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى : اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإنه أكذب الحديث ، وقال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم وقال : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن [ ص: 276 ] واعتقادهن ، وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما ، فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول ، وقال تعالى : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا وذلك عموم في جميع الكفار ؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله ، فقال : إنما قالها متعوذا ، قال : هلا شققت عن قلبه .

وروى الثوري عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب ، أنه أتى عبد الله فقال : ما بيني وبين أحد من العرب إحنة ، وإني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة ؛ فأرسل إليهم عبد الله ، فجاء بهم واستتابهم ، غير ابن النواحة قال له : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول ، أين ما كنت تظهر من الإسلام ؟ قال : كنت أتقيكم به ؛ فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ، ثم قال : من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق .

فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق ، وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم ، وأما ابن النواحة فلم يستتبه ؛ لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية ؛ وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة ؛ لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم .

وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال : أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب ، فكتب فيهم إلى عثمان ، فكتب عثمان : " اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله " فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية