الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من كفر به سبحانه بإنكاره أو إنكار شيء من صفاته، أو كذب بأحد من رسله قد أنكر نعمه أو نعمة منها فلزمه بإنكاره لتلك النعمة إنكار جميع النعم، لأن الرسل داعية إلى الله بالتذكير بنعمه، وكان ما مضى من هذه السورة إلى هنا اثنتي عشرة آية على عدد الكوفي والشامي، عدد فيها أصول نعمه سبحانه على وجه دل بغاية البيان على أن له كل كمال، وكان هذا العدد أول عدد زائد إشارة إلى تزايد النعم لأن كسوره النصف والثلث والربع والسدس تزيد على أصله، وكان قد مضى ذكر الثقلين الجن والإنس في قوله: " الأنام " قال تعالى إشارة إلى أنهم المقصودون بالوعظ، منكرا موبخا مبكتا لمن أنكر شيئا من نعمه أو قال قولا أو فعل فعلا يلزم منه إنكار شيء منها مسببا عما مضى من تعداد هذه النعم المتزايدة التي لا يسوغ إنكارها ولا إنكار شيء منها فيجب شكرها: فبأي آلاء أي: نعم عطايا ربكما أي: المحسن إليكما بما أسدى من المزايا التي أسداها إليكم على [ ص: 152 ] وجه الكبرياء والعظمة وهي دائمة لا تنقطع من غير [حاجة إلى] مكافأة أحد ولا غيرها - أيها الثقلان - المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره، من آياته وصنائعه وحكمه وحكمته وعزته في خلقه واستسلام الكل له وخضوعهما إليه، فإن كل هذه النعم الكبار آيات دالة عليه وصنائع محكمة وأحكام وحكم ظهرت بها عزته وبانت بها قدرته تكذبان فمخاطبته بهذا الثقلين دليل على أن هذه الأشياء تعم على الجن كما أنها تعم على الإنس، وأن لهم من ذلك ما لهم، وذكره لهذه الآية بعد ذكر هذا العدد من الآيات إشارة إلى أن زيادة النعم إلى حد لا يحصى بحيث أن استيفاء عددها لا تحيط به عقول المكلفين لئلا يظنوا أنه لا نعمة غير ما ذكر في هذه السورة، والتعبير عنها بلفظ الآلاء من أجل أنها النعم المخصوصة بالملوك لما لها من اللمعان والصف المميز لها [من] غيرها ولما لرؤيتها من الخير والدعاء، وهي وإن كانت من الوا فيمكن أخذها من اللؤواء إلى أن الأصل الهمزة واللام، فإذا انضم إليهما لام أخرى أو ألف ازداد المعنى الذي كان ظهورا لأن الألف غيب الهمزة وباطنها، واللام هي عين ما كان فلم يحصل خروج عن ذلك المعنى، فإذا نظرت إلى الآل كان المعنى أن تلك النعم الكبار الملوكية تظهر للعباد معرفته سبحانه وأنه يؤول إليه كل شيء أولا من غير نزاع كما أنه كان بكل شيء، وتكل عن نظرها الأبصار النوافذ كما تكل عن رؤية الأشخاص التي يرفعها الآل لأنها تدل عليه سبحانه... [ ص: 153 ] نعم عظيمة وإن كانت نقما لأنه لا نعمة تدل مثل ما دل عليه سبحانه، وكرر هذه الآية في هذه السورة من هنا بعد كل آية إلى آخرها لما تقدم في القمر من أن المنكر إذا تكرر إنكاره جدا بحيث أحرق الأكباد في المجاهرة بالعناد حسن سرد ما أنكره عليه، وكلما ذكر بفرد منه قيل له: لم تنكره؟ سواء أقر به حال التقرير أو استمر على العناد، فالتكرار حينئذ يفيد التعريف بأن إنكاره تجاوز الحد، ولتغاير النعم وتعددها واختلافها حسن تكرير التوقيف عليها واحدة واحدة تنبيها على جلالتها، فإن كانت نعمة فالأمر فيها واضح، وإن كانت نقمة [فالنعمة] دفعها أو تأخير الإيقاع بها، ولما تقدم [من] أن كل تذكير بما أفاده الله تعالى من النعم بالحواس الخمس مضروبة في الجهات الست على أنك إذا اعتبرت نفس الآية وجدتها مشيرة إلى ذلك، فإن كل كلمة منها - إلا الأخيرة في رسم من أثبت ألفها من كتبة المصاحف - خمسة أحرف إن اعتبرت هجاء الأوليين والثالثة خمسة في الرسم ستة في الهجاء والنطق، فهي للحواس وللجهات لأن الكل من الرب، والكلمة الأخيرة ستة أحرف إن اعتبرت رسمها في المصاحف التي أسقطت ألفها، فإن في إثباتها وحذفها اختلافا بين أئمة المصاحف، وهي إشارة إلى الجهات لأنها التي يملك الإنسان التصرف فيها، أما الحواس فلا اختيار له فيها، وإن اعتبرت هجاءها بحسب النطق كانت سبعة أحرف إشارة إلى أن النعم [ ص: 154 ] أكثر من أن تحصى لما تقدم من أسرار عدد السبعة وإلى أن تكذيب المكلفين متكاثر جدا، فلذلك كان في غاية المناسبة أن تبسط هذه النعم على عدد ضرب الحواس الخمس في الجهات الست، وذلك في الحقيقة فائدة، فإنه من المألوف المعروف والجميل الموصوف أن التكرير [عند] التكذيب يوجب التكرير عند التقرير، ويبلغ به النهاية في حسن التأثير، وزاد العدد على مسطح الخمس في الست واحدا إشارة إلى أن نعم الواحدة لا انقطاع لها، ولذلك فصلت إلى ثمان ذكرت أولا عقب النعم، فكانت على عدد السبع الذي هو أول عدد تام لأنه جمع الفرد والزوج وزوج الفرد وزوج الزوج، وزاد بواحد إشارة إلى أنه كلما انقضى دور من عدد تام جدير لنعم أخرى فهي لا تتناهى لأن موليها له القدرة الشاملة والعلم التام ورحمته سبقت غضبه، وفي كونها ثمانية إشارة إلى أنها سبب إلى الجنة ذات الأبواب الثمانية إن شكرت، وفي تعقيبها بسبع نارية إشارة إلى أنها سبب للنار ذات الأبواب السبعة إن كفرت ، وفي تعقيبها بها إشارة إلى أن سببيتها للنار أقرب لكونها حفت بالشهوات، وفي ذلك إشارة إلى أن من اتقى ما توعد عليه بشكر هذه النعم وقي أبواب النار السبعة، ثم عقبها بثمانية ذكر فيها جنة المقربين إشارة إلى أن من عمل لما وعده كما أمره به الله نال أبواب الجنة الثمانية، وثمانية أخرى عقب جنة أصحاب اليمين إشارة إلى مثل ذلك والله أعلم، وكان ترتيبها في غاية الحسن، ذكرت النعم أولا استعطافا وترغيبا في الشكر ثم الأهوال ترهيبا ودرءا للمفسدة بالعصيان والكفر ثم النعم الباقية لجلب المصالح، وبدأ [ ص: 155 ] بأشرفها فذكر الجنة العليا لأن القلب إثر التخويف يكون أنشط والهمم تكون أعلى والعزم يكون أشد، فحينئذ هذه الآية الأولى من الإحدى والثلاثين مشيرة إلى أن نعمة البصر من جهة الأمام، فكأنه قيل: أبنعمة البصر مما يواجهكم أو غيرها [تكذبان].

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية