الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 265 ] 48 - باب بيان مشكل ما روي { عن رسول الله عليه السلام في جوابه كان لزوجتيه أم سلمة وميمونة رضوان الله عليهما لما دخل عليه ابن أم مكتوم الأعمى وهما عنده بعدما أنزل الحجاب : احتجبا منه . فقلنا : يا رسول الله ، إنه أعمى لا يرانا ولا يعرفنا ، ومن قوله لهما : أعمياوان أنتما }

288 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن { نبهان مولى أم سلمة ، أن أم سلمة أخبرته أنها كانت عند رسول الله عليه السلام ، وميمونة قالت : فبينا نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم ، فدخل عليه ، وذلك بعد أن أمر بالحجاب . فقال رسول الله عليه السلام : احتجبا منه ، فقلنا : يا رسول الله ، أليس هو أعمى ، لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله عليه السلام : أفعمياوان أنتما ، ألستما تبصرانه . } ؟

289 - حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا [ ص: 266 ] عبد الرزاق ، حدثني ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن نبهان مولى أم سلمة ، { عن أم سلمة قالت : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة ، فاستأذن ابن أم مكتوم ، وذلك بعد الحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوما ، فقلت : يا رسول الله ، إنه أعمى لا يبصرنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعمياوان أنتما ؟ } .

فكان في هذا الحديث ما قد دل أن الله عز وجل لما حجب أمهات المؤمنين عن الناس ، فمنعهم من رؤيتهن بقوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب أنه قد كان في [ ص: 267 ] ذلك حجب الناس عنهن كما حجبهن عن الناس ، وأنه حرام عليهن النظر إلى الناس الذين يحرم عليهم النظر إليهن ، فدخل في ذلك العميان والبصراء جميعا ، فتوهم متوهم أن ما في هذا الحديث مما ذكرنا ما قد خالف ما في الحديث المروي في أمر عائشة رضوان الله عليها . :

290 - وهو ما حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عمرو بن الحارث ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة قالت : { رأيت رسول الله عليه السلام يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة ، وهم يلعبون وأنا جارية ، فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن } .

291 - وما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب قال : قال عمرو ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة { وكان يوما عندي تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلعب السودان بالدرق والحراب ، فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإما قال : تنظرين ؟ فقلت : نعم ، فأقامني وراءه حذاء خده ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة ، حتى إذا مللت . قال : حسبك ؟ قلت : نعم . قال : اذهبي } .

[ ص: 268 ]

292 - حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، وحدثني بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي سلمة ، عن عائشة قالت : { دخل الحبشة المسجد يلعبون فقال لي : يا حميراء ، أتحبين أن تنظري إليهم ؟ فقلت : نعم ، فقام بالباب ، وجئته فوضعت ذقني على عاتقه ، وأسندت وجهي إلى خده ، ومن قولهم يومئذ : أبا القاسم ، طيبا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك . فقلت : يا رسول الله ، لا تعجل ، فقام ، ثم قال : حسبك . فقلت : لا تعجل يا رسول الله ، قالت : وما بي حب النظر إليهم ، ولكن أحببت أن يبلغ النساء مقامه لي ، أو مكاني منه } .

293 - وما قد حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثني الأوزاعي ، حدثني ابن شهاب ، حدثني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : { دخل عمر بن الخطاب والحبشة يلعبون في المسجد ، فزجرهم ، فقال رسول الله عليه السلام : دعهم يا عمر ، [ ص: 269 ] فإنهم بنو أرفدة } .

فكان جوابنا له عن ذلك أن ما في حديث عائشة هذا لم يبن لنا مضادته لحديث أم سلمة وميمونة الذي رويناه في الفصل الأول من هذا الباب ، وكان ما في حديث أم سلمة وميمونة مكشوف المعنى ، وموقوفا به على أنه كان بعد نزول الحجاب ، وعلى أن ما فيه مما خاطب به رسول الله عليه السلام أم سلمة وميمونة زوجتيه كان لامرأتين بالغتين قد لحقهما العبادة ، وكان حديث عائشة لا ذكر فيه لتقدم نزول الحجاب في نساء رسول الله عليه السلام عن الناس ، وفي حجاب الناس عنهن ، وليس لأحد أن يحمله على أنه كان بعد نزول الحجاب إلا كان لمخالفه أن يحمله على أنه كان قبل نزول الحجاب فيتكافآن في ذلك ، وإذا تكافآ فيه ارتفع ، وقد يحتمل أيضا أن يكون ما في حديث عائشة كان وهي حينئذ لم تبلغ مبلغ النساء ، فلم يلحقها العبادات ، فكان ذلك الذي كان منها كان ، ولا تعبد عليها .

فقال هذا القائل : وفيما رويتم عن عائشة ما يجب دفعه وترك قبوله ؛ لأن فيه لعب السودان بالدرق في مسجد رسول الله عليه السلام ، وذلك من اللهو الذي لا يصلح في غيره من المساجد ، وكيف فيه على تجاوز حرمته حرمتهم غير المسجد الحرام ، ووصل ذلك بما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 270 ]

294 - مما قد حدثناه علي بن معبد ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي . قال أبو جعفر : لم يكن هذا من سهم قريش ، كان من سهم باهلة عن حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ،

وما قد حدثنا علي بن شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حميد ، عن أنس بن مالك قال : { قدم رسول الله عليه السلام المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال : إن الله أبدلكما بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم النحر } .

وكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله : أن الذي في حديث عائشة مما كان من السودان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من اللهو المذموم ؛ لأنه مما يحتاج إليه من أمثالهم في الحرب ، فذلك محمود منهم في المسجد ، وفيما سواه ، والذي في حديث أنس مما كانوا يفعلونه في الجاهلية من اللعب كان على جهة اللهو ، مما لا يقابل بمثله عدو ولا منفعة فيه للإسلام ، ولا لأهله ، فذلك مذموم من أهله ، غير محمود منهم ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صنف من اللهو الذي يرجع إليه أنه آلة في حرب العدو ، وأنه محمود .

295 - كما حدثنا بكار ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام ، عن عبد الله بن زيد الأزرق ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله عليه السلام قال : { إن الله [ ص: 271 ] عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الأجر ، والرامي به ، والمنبله ، فارموا واركبوا ، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ، وليس من اللهو إلا ثلاثة : تأديب الرجل فرسه ، ومداعبته امرأته ، ورميه بقوسه ، ومن ترك الرمي بعد ما علمه كانت نعمة كفرها } .

[ ص: 272 ]

296 - وحدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا هشام بن زكريا بإسناده .

297 - وكما حدثنا الربيع ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا أبو رجاء ، حدثني أبو سلام ، حدثني خالد بن زيد قال : قال لي عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . .. ثم ذكر مثله .

وكان ما قد رويناه من حديث عقبة هذا قد دل على أن ما كان من اللهو مما يراد به تعليم آلة الحرب مما هو مأمور به ، محمود عليه أهله ، فبان مما ذكرنا بتوفيق الله وعونه أن لا شيء فيما رويناه في هذا الباب عن رسول الله عليه السلام مضاد لشيء مما رويناه عنه فيه ، وأن كل نوع منه فلمعنى أراده صلى الله عليه وسلم به ، وأن تمييز ذاك ووضعه مواضعه يؤخذ من أهل العلم بمثله ، لا ممن سواهم ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية