الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ومنها : تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله :

                        فيفتاتون على الشريعة بما فهموا ، ويدينون به ، ويخالفون الراسخين في العلم ، وإنما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم ، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط ، وليسوا كذلك :

                        كما حكي عن بعضهم : أنه سئل عن قول الله تعالى : ريح فيها صر ؟ فقال : " هو هذا الصرصر " ؛ يعني صرار الليل .

                        وعن النظام : أنه كان يقول : " إذا آلى ( المرء ) بغير اسم الله لم يكن موليا ؛ قال : " لأن الإيلاء مشتق من اسم الله " .

                        وقال بعضهم في قول الله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ، " لكثرة أكله من الشجرة " ، يذهبون إلى قول العرب ، غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ، ولا يقال فيه : غوى ، وإنما غوى من الغي .

                        وفي قوله سبحانه : ولقد ذرأنا لجهنم ؛ أي : " ألقينا فيها " ؛ كأنه [ ص: 302 ] عندهم من قول العرب : ذرته الريح ، وذلك لا يجوز ؛ لأن ذرأنا مهموز ، وذرته غير مهموز ، وكذلك إذا كان من : أذرته الدابة عن ظهرها ؛ لعدم الهمزة ، ولكنه رباعي ، وذرأنا ثلاثي .

                        وحكى ابن قتيبة عن بشر المريسي : أنه كان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئها ، فسمع قاسم التمار قوما يضحكون ، فقال : هذا كما قال الشاعر :


                        إن سليمى والله يكلوها ضنت بشيء ما كان يرزوها

                        وبشر المريسي رأس في الرأي ، وقاسم التمار رأس في أصحاب الكلام .

                        قال ابن قتيبة : " واحتجاجه لبشر أعجب من لحن بشر " .

                        واستدل بعضهم [ على ] تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى : ولحم الخنزير ، فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره ، فدل على أنه حلال !

                        وربما سلم بعض العلماء ما قالوا ، وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع ، والأمر أيسر من ذلك ؛ فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة ، حتى إذا خص بالذكر ؛ قيل : شحم ؛ كما يقال : عرق ، وعصب ، وجلد ، ولو كان على ما قالوا ؛ لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرما ، وهو خروج عن [ ص: 303 ] القول بتحريم الخنزير .

                        ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم أن لا تحكيم ؛ استدلالا بقوله تعالى : إن الحكم إلا لله ؛ فإنه مبني على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ، فلا يلحقه تخصيص ، فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى : فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقوله : يحكم به ذوا عدل منكم .

                        وإلا ؛ فلو علموا تحقيقا قاعدة العرب في أن العموم يراد به الخصوص ؛ لم يسرعوا إلى الإنكار ، ولقالوا في أنفسهم : هل هذا العام مخصوص ؟ فيتأولون .

                        وفي الوضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا .

                        وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل ، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله .

                        فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ، وتسقط مكالمة أهلها ، ولا يعد خلاف أمثالهم ، وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية ؛ فهو عين البدعة ، إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى .

                        فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حيث قال : [ ص: 304 ] " إنما هذا القرآن كلام ، فضعوه مواضعه ، ولا تتبعوا به أهواءكم " ؛ أي : فضعوه على مواضع الكلام ، ولا تخرجوه عن ذلك ؛ فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى .

                        وعنه أيضا : " إنما أخاف عليكم رجلين : رجل تأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينفس المال على أخيه " .

                        وعن الحسن : أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه ؟ قال : " نعم ، فليتعلمها ؛ فإن الرجل يقرأ بالآية ، ( فيعياه توجيهها ) ، فيهلك . وعنه أيضا ؛ قال : " أهلكتهم العجمة ، يتأولون القرآن على غير تأويله " .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية