الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 97 ] 490 - باب بيان مشكل ما روي في الطفل والطفلة إذا تنازعه أبواه أيهما أولى أن يكون عنده منهما

3085 - حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن زياد بن سعد ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن أبي ميمونة - وليس بأبيه - عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أتي في غلام بين أبوين ، فقال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام بين أبويه ، فقال : يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر .

3086 - وحدثنا محمد بن النعمان ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا زياد بن سعد ، قال : سمعت من هلال بن أبي ميمونة يحدثه عن أبي ميمونة ، قال : [ ص: 98 ] أتى أبا هريرة رجل فارسي وامرأة له يختصمان في ابن لهما ، فقال الفارسي : يا أبا هريرة هذا بسر يعني ابنا . فقال أبو هريرة : لأقضين بينكما بما شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، يا غلام هذا أبوك ، وهذه أمك فاختر أيهما شئت ، ثم قال أبو هريرة : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل وامرأة يختصمان في ابن لهما ، فقال الرجل : يا رسول الله ابني يستقي من بئر أبي عنبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا أبوك وهذه أمك ، فاختر أيهما شئت .

قال : ففي هذا الحديث يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الصبي بين أبويه ، وفي ذلك متعلق لمن يذهب إلى التخيير في مثل هذا على من لا يذهب إلى التخيير فيه ممن يحتج بحديث ابنة حمزة الذي رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخير فيه ابنة حمزة بين عصبتها لتختار أيهم شاءت .

وإلى هذا كان يذهب أكثر الكوفيين في ترك التخيير فيه ، وكان كثير من أهل الحجاز يستعملون التخيير في هذا للحديث الذي قد رويناه فيه عن أبي هريرة .

[ ص: 99 ] غير أن عليهم في ذلك مطالبات لبعض من يخالفهم في ذلك أن حديث زياد لم يستوعب ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الصبي ، وقد استوعبه حديث غيره ممن ليس بدونه وهو يحيى بن أبي كثير .

3087 - كما قد حدثنا أبو بكر محمد بن عبدة بن عبد الله بن زيد المروزي ، قال : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، قال : حدثنا معاوية بن سلام ، عن يحيى - وهو ابن أبي كثير - ، قال : حدثني هلال بن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - ولم يذكر في إسناده أبا ميمونة - ، قال : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي يريد أن يحول بيني وبين ابني ، وكان قد طلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استهما عليه ، فقال الرجل : من يحول بيني وبين ابني ، فخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلام بين أبيه وأمه ، فاختار أمه ، فذهبت به .

3088 - كما حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه ، قال : حدثنا وكيع ، عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة - ولم يذكر فيه هلالا - ، قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها ، وكان زوجها طلقها ، فأراد أبوه أن يأخذه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : استهما فيه ، فقال الرجل من يحول بيني وبين ابني ، [ ص: 100 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام : اختر أيهما شئت ، فاختار الأم ، فذهبت به .

قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخير ذلك الغلام بين أبيه وأمه حتى دعا أبويه إلى الاستهام عليه قبل ذلك ، ومن خير بلا دعاء منه الذي يخيره بينهما إلى الاستهام على الصبي المخير قبل التخيير تارك لهذا الحديث ، وعليه في تركه إياه مثل ما على الذي لا يخير في تركه التخيير في هذا الحديث .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا في مثل هذا ما قد دل أن التخيير لم يكن منه قضاء به ، ولكنه كان باختيار أبوي الصبي لذلك .

3089 - كما حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا عثمان البتي ، قال : أخبرني عبد الحميد بن سلمة الأنصاري : أن جده أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تسلم امرأته وله منها ولد ، فاختصما في ولدهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما : إن شئتما خيرتكما ، فأجلس الأب ناحية والأم ناحية ، ثم خير الغلام ، فانطلق نحو أمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهده ، فرجع الغلام إلى أبيه .

[ ص: 101 ] هكذا روى هشيم هذا الحديث عن عبد الحميد ، وقد خالفه غيره في إسناده ، فرواه زائدا على ما رواه عليه هشيم .

3090 - كما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ابنتي - وهي فطيم أو شبهه - وقد أدركت ابنتي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقعد ، وقال : اقعدي ناحية ، وأقعد الصبية بينهما ، وقال : ادعواها ، فجاءت الصبية إلى أمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اهدها ، فذهبت إلى أبيها فأخذها .

[ ص: 102 ] قال أبو جعفر : وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبوي هذه الصبية أن يدعواها ، وهذا مما قد دل أن هذا من الحكم في مثلها .

3091 - وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عثمان البتي ، عن عبد الحميد بن سلمة ، عن أبيه أن رجلا أسلم ولم تسلم امرأته ، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبي لهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لكما أن تخيراه ؟ فقالا : نعم ، فنادته أمه ، فذهب نحوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اهده ، فناداه أبوه ، فانصرف إليه .

[ ص: 103 ] ففي هذا الحديث أيضا أن التخيير إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الصبي باختيار أبويه ذلك ، لا بواجب عليهما فيه .

3092 - وكما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن شبويه ، قال : قلت لعبد الرزاق : أخبركم سفيان ، عن عثمان البتي ، عن عبد الحميد الأنصاري ، عن أبيه ، عن جده أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم ، فجاء بابن له صغير لم يبلغ ، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم الأم هاهنا والأب هاهنا ، ثم خيره ، وقال : اللهم اهده ، فذهب إلى أبيه ؟ فقال عبد الرزاق : نعم .

ففي هذا الحديث أن الغلام لم يكن بلغ وأنه صغير ، ففي ذلك ما قد دل على أن ذكر الإدراك فيما قد رويناه قبله لم يرد به إدراك البلوغ ، ولكنه أريد به إدراك الحكم فيه بما يجب أن يحكم به في مثله .

[ ص: 104 ]

3093 - وكما حدثنا محمد بن بحر بن مطر البغدادي ، قال : حدثنا علي بن عاصم ، قال : حدثنا عثمان البتي - وكان من العلم بمكان - ، عن عبد الحميد بن أبي سلمة ، عن أبيه ، قال : أسلم أبي وأبت أمي أن تسلم ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ، فقال أبي : أنا أحق به ، وقالت أمي : أنا أحق به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شئتما خيرته ، فوثبت أمي للطفها بي ، فقالت : قد رضيت ، قال أبي : قد رضيت ، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا غلام إن شئت اذهب إلى أبيك ، وإن شئت اذهب إلى أمك ، فتوجهت نحو أمي ، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول من خلفي : اللهم اهده ، فتوجهت إلى أبي حتى قعدت في حجره .

ففي هذا الحديث أيضا أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الصبي ، إنما كان بعد اختيار أبويه أن يخير بينهما .

فوجب بتصحيح ما رويناه في هذا الباب أن لا يخرج عن شيء مما رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ولا يترك ، وأن يكون المستعمل في مثل هذا دعاء أبوي الصبي إلى الاستهام عليه ، فإن أجابا إلى ذلك أسهم بينهما عليه ، وإن أبيا ذلك ثم سألا أن يخير الصبي بينهما ليختار أحدهما ، فيكون أحق به من الآخر فعل ذلك فيه ، وإن لم يكن منهما اختيار في ذلك وجب أن يرجع إلى ما في حديث ابنة حمزة الذي رويناه في الباب الذي قبل هذا الباب ، فيستعمل فيه ، ويقضى [ ص: 105 ] به لمن يراه الحاكم فيه أولى به من المختصمين إليه فيه .

وعبد الحميد صاحب هذا الحديث قد بينه لنا عيسى بن يونس في روايته إياه عنه ، وأنه عبد الحميد بن جعفر ، وكان ما نسبه إليه غيره ممن رواه عنه ممن ذكرناه في هذا الباب فقال هشيم فيه : ابن سلمة ، ووافقه على ذلك حماد بن سلمة ، وقال فيه علي بن عاصم : عبد الحميد بن أبي سلمة ، فكل من نسبه إلى غير جعفر ، فإنما نسبه إلى كنية أبيه ، أو إلى أب من آبائه يسمى بذلك الاسم الذي ذكره به .

وقد حدثني أحمد بن محمد البغدادي ، قال : حدثنا أبو حفص عمرو بن علي ، قال : سمعت أبا عاصم يقول : سمعت عبد الحميد بن جعفر يقول : أنا حدثت البتي بحديث التخيير بالأهواز .

فبان بذلك أن عبد الحميد هذا المذكور في هذه الآثار هو عبد الحميد بن جعفر ، كما قال عيسى بن يونس في الحديث الذي رويناه عنه في هذا الباب .

وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قضى في مثل هذا بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبين أم عاصم ابنه التي كان طلقها ، فجعله لها بغير تخيير بينهما فيه ، إلا أن فيه حرفا قد يحتمل أن يكون أريد به التخيير في حال مستأنفة .

[ ص: 106 ] كما حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : حدثنا عاصم الأحول ، عن عكرمة ، قال : خاصم عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأته التي طلق إلى أبي بكر رضي الله عنه في ولدها ، فقال أبو بكر : هي أحق به ما لم تزوج أو يشب الصبي ، وقال : هي أحنى وأعطف وألطف وأرأف وأرحم .

[ ص: 107 ] قال أبو جعفر : غير أنه قد يحتمل أن يكون قوله : أو يشب الصبي ، لا يريد به حالا يخير فيها ، ولكن يريد به حالا يخرج به من الحضانة ، ويستغني عنها ، فيكون لأبيه دون أمه ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية