الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين

"الوسوسة": الحديث في اختفاء؛ همسا؛ وسرارا من الصوت؛ و"الوسواس": صوت الحلي؛ فشبه الهمس به؛ وسمي إلقاء الشيطان في نفس ابن آدم "وسوسة"؛ إذ هي أبلغ السرار؛ وأخفاه؛ هذا حال الشيطان معنا الآن؛ وأما مع آدم - عليه السلام - فممكن أن تكون وسوسة بمجاورة؛ خفية؛ أو بإلقاء في نفس؛ ومن ذلك قول رؤبة :


وسوس يدعو جاهدا رب الفلق ... .................



[ ص: 532 ] فهذه عبارة عن كلام خفي؛ و"الشيطان"؛ يراد به إبليس نفسه؛ واختلف نقلة القصص في صورة وسوسته؛ فروي أنه كان يدخل إلى الجنة في فم الحية؛ مستخفيا - بزعمه - فيتمكن من الوسوسة؛ وروي أن آدم - عليه السلام - وحواء؛ كانا يخرجان خارج الجنة؛ فيتمكن إبليس منهما؛ وروي أن الله تعالى أقدره على الإلقاء في أنفسهما؛ فأغواهما؛ وهو في الأرض.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول ضعيف؛ يرده لفظ القرآن.

واللام في قوله تعالى "ليبدي"؛ هي - على قول كثير من المؤلفين - لام الصيرورة والعاقبة؛ وهذا بحسب آدم - عليه السلام - وحواء؛ وبحسب إبليس؛ في هذه العقوبة المخصوصة؛ لأنه لم يكن له علم بها فيقصدها.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويمكن أن تكون لام "كي"؛ على بابها؛ بحسب قصد إبليس إلى حط مرتبتهما؛ وإلقائهما في العقوبة غير المخصوصة؛ و"ما ووري"؛ معناه: "ما ستر"؛ من قولك: "وارى؛ يواري"؛ إذا ستر؛ وظاهر هذا اللفظ أنها "مفاعلة"؛ من واحد؛ ويمكن أن تقدر من اثنين؛ لأن الشيء الذي يوارى [يواري] هو أيضا من جهة.

وقرأ ابن وثاب : "ما وري"؛ بواو واحدة؛ وقال قوم: إن هذه اللفظة في هذه الآية مأخوذة من "وراء".

[ ص: 533 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهو قول يوهنه التصريف.

و"السوأة": الفرج؛ والدبر؛ ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء؛ وقرأ مجاهد ؛ والحسن : "من سوتهما"؛ بالإفراد؛ وتسهيل الهمزة؛ وشد الواو؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع؛ وشيبة بن نصاح؛ والحسن ؛ والزهري : "من سواتهما"؛ بتسهيل الهمزة؛ وتشديد الواو؛ وحكاها سيبويه لغة؛ قال أبو الفتح: ووجهها حذف الهمزة؛ وإلقاء حركتها على الواو فيقولون: "سوة"؛ ومنهم من يشدد الواو؛ وقالت طائفة: إن هذه العبارة إنما قصد بها أنهما كشفت لهما معانيهما؛ وما يسوؤهما؛ ولم يقصد بها العورة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قول كان اللفظ يحتمله؛ إلا أن ذكر خصف الورق يرده؛ إلا أن يقدر الضمير في "عليهما"؛ عائدا على بدنيهما؛ إذ تمزقت عنهما ثياب الجنة؛ فيصح القول المذكور.

وقوله تعالى وقال ما نهاكما ؛ الآية؛ هذا القول الذي حكي عن إبليس يدخله من هذا التأويل ما دخل الوسوسة؛ فممكن أن يقول هذا مخاطبة وحوارا؛ وممكن أن يقولها إلقاء في النفس؛ ووحيا.

و"إلا أن"؛ تقديره عند سيبويه ؛ والبصريين: إلا كراهية أن؛ وتقديره عند الكوفيين: إلا ألا؛ على إضمار "لا".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ويرجح قول البصريين أن إضمار الأسماء أحسن من إضمار الحروف.

وقرأ جمهور الناس: "ملكين"؛ بفتح اللام؛ وقرأ ابن عباس ؛ ويحيى بن كثير؛ والضحاك : "ملكين"؛ بكسر اللام؛ ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى في آية أخرى: وملك لا يبلى .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقال بعض الناس: يخرج من هذه الألفاظ أن الملائكة أفضل من البشر؛ وهي مسألة اختلف الناس فيها؛ وتمسك كل فريق بظواهر من الشريعة؛ والفضل بيد الله تعالى ؛ [ ص: 534 ] وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية؛ لأنه يحتمل أن يريد "ملكين"؛ في ألا تكون لهما شهوة في طعام.

"وقاسمهما"؛ أي: حلف لهما بالله تعالى ؛ وهي "مفاعلة"؛ إذ قبول المحلوف له وإقباله على معنى اليمين؛ كالقسم؛ وتقريره؛ وإن كان بادي الرأي يعطي أنها من واحد؛ ومثله قول الهزلي:


وقاسمهما بالله جهدا لأنتم ...     ألذ من السلوى إذا ما تشورها



وروي في القصص أن آدم - عليه السلام - قال - في جملة اعتذاره -: "ما ظننت يا رب أن أحدا يحلف حانثا"؛ فقال بعض العلماء: خدع الشيطان آدم - عليه السلام - بالله - عز وجل - فانخدع؛ ونحن من خدعنا بالله - عز وجل - انخدعنا له؛ وروي نحوه عن قتادة .

واللام في قوله تعالى "لكما"؛ متعلقة بـ "الناصحين"؛ فقال بعض الناس - مكي ؛ وغيره -: ذلك على أن تكون الألف واللام لتعريف الجنس؛ لا بمعنى "الذي"؛ لأنها إذا كانت بمعنى "الذي"؛ كان قوله - تبارك وتعالى -: "لكما"؛ داخلا في الصلة؛ فلا يجوز تقديمه؛ وأظن أن أبا علي الفارسي خرج جواز تقديمه؛ وهي بمعنى "الذي"؛ والظاهر أنه إن جعلت بمعنى "الذي"؛ كانت اللام في قوله "لكما"؛ متعلقة بمحذوف؛ تقديره: "إني ناصح لكما من الناصحين"؛ وقال أبو العالية - في بعض القراءة -: "وقاسمهما بالله".

التالي السابق


الخدمات العلمية