الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الدرجة الرابعة أن لا يتحقق أنه حلال ولا يفرق بل يستبقي ولكن يأخذ من سلطان أكثر ماله حلال ، وهكذا كان الخلفاء في زمان الصحابة رضي الله عنهم والتابعين بعد الخلفاء الراشدين ولم يكن أكثر مالهم حراما .

ويدل عليه تعليل علي رضي الله عنه حيث قال : فإن ما يأخذه من الحلال أكثر .

فهذا ، مما قد جوزه جماعة من العلماء تعويلا على الأكثر .

ونحن إنما توقفنا فيه في حق آحاد الناس ، ومال السلطان أشبه بالخروج عن الحصر فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذ ما لم يعلم أنه حرام اعتمادا على الأغلب ، وإنما منعناه إذا كان الأكثر حراما ، فإذا فهمت هذه الدرجات تحققت أن إدرارات الظلمة في زماننا لا تجري مجرى ذلك ، وأنها تفارقه من وجهين قاطعين .

أحدهما أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها ، وكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة لا وجود لها وليس يدخل منها شيء في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية وأنها تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء له بالشرط ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين ، ومن المصادرات والرشا وصنوف الظلم لم يبلغ عشر معشار عشيره .

والوجه الثاني أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم ومتشوفين إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم وكانوا ، يبعثون إليهم من غير سؤال وإذلال بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم ويفرحون به وكانوا يأخذون منهم ويفرقون ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم ولا يغشون مجالسهم ولا يكثرون جمعهم ولا يحبون بقاءهم بل يدعون عليهم ويطلقون اللسان فيهم وينكرون المنكرات منهم عليهم ، فما كان يحذر أن يصيبوا من دينهم بقدر ما أصابوا من دنياهم ولم يكن يأخذهم بأس ، فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامهم والتكثر بهم والاستعانة بهم على أغراضهم والتجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم المواظبة على الدعاء والثناء والتزكية والإطراء في حضورهم ومغيبهم .

فلو لم يذل الآخذ نفسه بالسؤال أولا ، وبالتردد في الخدمة ثانيا ، وبالثناء والدعاء ثالثا ، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة رابعا وبتكثير جمعه في مجلسه وموكبه خامسا ، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادسا ، وبالستر على ظلمه ومقابحه ومساوي أعماله سابعا لم ينعم عليه بدرهم واحد ولو كان في فضل الشافعي رحمه الله مثلا فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال لإفضائه إلى هذه المعاني فكيف ما يعلم أنه حرام أو يشك فيه فمن استجرأ على أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين فقد قاس الملائكة بالحدادين .

ففي أخذ الأموال منهم حاجة إلى مخالطتهم ومراعاتهم ، وخدمة عمالهم واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم ، وكل ذلك معصية على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا فإذا قد تبين مما تقدم مداخل أموالهم وما يحل منها ، وما لا يحل .

فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته يساق إليه ذلك لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل وخدمته ولا إلى الثناء عليهم وتزكيتهم ولا إلى مساعدتهم فلا يحرم الأخذ ولكن يكره لمعان وسننبه عليها في الباب الذي يلي هذا .

التالي السابق


الدرجة ( الرابعة أن لا يتحقق أنه حلال ولا يفرق بل يستبقي ) عنده، (ولكن يأخذه من سلطان أكثر ماله حلال، وهكذا كان الخلفاء في زمن الصحابة والتابعين بعد الخلفاء الراشدين) الأربعة، (ولم يكن أكثر مالهم حراما، ويدل عليه تعليل علي) رضي الله عنه (حيث قال: فإن ما يأخذ من الحلال أكثر، وهذا مما قد جوزه جماعة من العلماء) أي: رأوه جائزا (تعويلا على الأكثر، ونحن توقفنا فيه في حق آحاد الناس، ومال السلطان أشبه بالخروج من الحصر) لكثرته، (فلا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى جواز أخذه ما لم يعلم أنه حرام اعتمادا على الأغلب، وإنما منعنا إذا كان الأكثر حراما، فإذا فهمت هذه الدرجات) الأربع (تحققت أن إدرارات الظلمة في زماننا) هذا (لا تجري مجرى ذلك، وأنها تفارقه من وجهين قاطعين) للنزاع، (أحدهما أن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها، وكيف لا والحلال من أموالهم) ; إنما (هو) بحسب مداخلها مثل (الصدقات والفيء والغنيمة ولا وجود لها) أي: لهذه الثلاثة، (وليس يدخل منها شيء في يد السلطان) الآن، (ولم يبق إلا الجزية) المضروبة على الكفار، (وإنما تؤخذ) منهم (بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه والوفاء لهم بالشرط) على ما أشرت إلى بعض ذلك قريبا، (ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصب إليهم من الخراج المضروب على المسلمين، ومن المصادرات) في الأموال، (والرشا) والبراطيل (وصنوف الظلم لم تبلغ عشر معشار عشيره) ، فلا حول ولا قوة إلا بالله، والعشير كأمير لغة في العشر بالضم وهو الجزء من العشرة .

(الوجه الثاني أن الظلمة في العصر الأول لقرب عهدهم بزمان الخلفاء الراشدين كانوا مستشعرين من ظلمهم) أي: متخوفين (إلى استمالة قلوب الصحابة والتابعين) في الظاهر والباطن، (وحريصين على قبولهم عطاياهم وجوائزهم، وكانو يبعثون إليهم) ، وفي نسخة: ينصحون إليهم ابتداء (من غير سؤال) منهم، (و) لا (إذلال) لمنصبهم، (بل كانوا يتقلدون المنة بقبولهم) ما يرسلون (ويفرحون به) ، ويغتنمون ذلك، (فكانوا يأخذون منهم ذلك) ، ولا يردونه عليهم، (ويفرقونه) على المستحقين بحسب ما يتراءى لهم، (ولا يطيعون السلاطين في أغراضهم) صحيحة كانت أو فاسدة، (ولا يغشون مجالسهم) ، أي: لا يردونها، (ولا يكثرون جمعهم) بالدخول معهم، (ولا يحبون بقاءهم) في الدنيا، (بل يدعون عليهم) بالويل والهلاك، (ويطيلون الألسن فيهم) بالكلام، (وينكرون المنكرات منهم، فما كان يحذر عليهم أن يصيبوا من دينهم بقدر [ ص: 119 ] ما أصابوا من دنياهم، فلم يكن يأخذهم من بأس، فأما الآن فلا تسمح نفوس السلاطين بعطية إلا لمن طمعوا في استخدامه) واستصحابه، (والتكثر به) لسوادهم، (والاستعانة به على أغراضهم) الدنيوية، (والتجمل بغشيان مجالسهم وتكليفهم) الشطط، و (المواظبة على الدعاء) لهم، (و) حسن (الثناء) عليهم، (والتزكية) لهم، (والإطراء) هو المبالغة في المدح (في حضورهم ومغيبهم) ، فإن خالفوا ذلك لم يعط شيئا، (فلو لم يذل الآخذ) منهم (نفسه بالسؤال أولا، وبالتردد في الخدمة ثانيا، وبالثناء) الحسن (والدعاء) بالبقاء (ثالثا، وبالمساعدة له على أغراضه عند الاستعانة) به (رابعا وبتكثير جمعه في موكبه ومجلسه خامسا، وبإظهار الحب والموالاة والمناصرة له على أعدائه سادسا، وبالستر على ظلمه ومقابحه) ومفاسده، (ومساوي أعماله سابعا) ، والانتساب إليه في أحواله ثامنا، والتعويل عليه في مهماته تاسعا، وجر أسباب تحصيل الأموال إليه عاشرا، (لم ينعم عليه بدرهم واحد) ، بل لم يلتفت إليه، (ولو كان في فضل) الإمام ( الشافعي ) رحمه الله تعالى (مثلا) ، وليس وراء عبادات قرية، (فإذا لا يجوز أن يؤخذ منهم في هذا الزمان ما يعلم أنه حلال) صرف (لإفضائه إلى هذه المعاني) السبعة، بل العشرة، (فكيف ما يعلم أنه حرام أو يشك) فيه، (فمن استجرأ على) أخذ، (أموالهم وشبه نفسه بالصحابة والتابعين) بأنهم قد أخذوا من أمراء زمانهم، (فقد قاس الملائكة بالمدادين) ، وأين هم من هؤلاء، (ففي أخذ الأموال منهم حاجة) داعية (إلى مجالستهم ومراعاتهم، وخدمة عمالهم) وأتباعهم المنسوبين إليهم (واحتمال الذل منهم والثناء عليهم والتردد إلى أبوابهم بكرة وعشية، وكل ذلك معصية على ما سنبين في الباب الذي يلي هذا) الباب، (فإذا قد تبين بما تقدم مداخل أموالهم) من أين تدخل لهم، (وما يحل منها، وما لا يحل، فلو تصور أن يأخذ الإنسان منها ما يحل بقدر استحقاقه وهو جالس في بيته فيساق إليه) بلا سؤال، ولا إرسال واسطة ولا إذلال، (لا يحتاج فيه إلى تفقد عامل) من عمالهم، (و) لا إلى خدمته ولا إلى الثناء عليهم (وتزكيتهم) في المجلس، (ولا إلى مساعدتهم) إن احتاجوا إليه، (فلا يحرم الأخذ) من هذا الوجه، (ولكن يكره لمعان سننبه عليها في الباب الذي يلي هذا) الباب .




الخدمات العلمية