الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 143 ] 494 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد اختلف القراء فيه فزاد بعضهم على بعض فيه ما قصر عنه غيره منهم

3123 - حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء الغداني ( ح ) ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم ، قالا : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن قصة موسى والخضر صلى الله عليهما وسلم أنهما بينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر صلى الله عليه وسلم برأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ، ثم ساق الحديث حتى انتهى منه إلى سؤال الخضر موسى صلى الله عليهما وسلم عما كان منه مما أنكره عليه وإلى قول الخضر له : ( وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ) .

[ ص: 144 ] قال : ففي هذا الحديث : أقتلت نفسا زكية ، وقد روي من هذا الوجه بخلاف هذا الحرف من رواية أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي أيضا .

3124 - كما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا روح بن أسلم ، قال : أخبرنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يقول : حدثني رقبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : حدثني أبي بن كعب ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، ثم ذكر مثله ، غير أنه ذكر مكان : زكية . زاكية

3125 - وحدثنا عمران بن موسى الطائي أبو الحسن ، قال : حدثنا أبو الربيع الزهراني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي يذكر عن رقبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 145 ] قال : الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ، ولو أدرك لأرهق أبواه طغيانا وكفرا .

قال أبو جعفر : وقد اختلف على أبي إسحاق في هذا الحديث في زكية وفي زاكية " على ما ذكرنا عنه في كل واحدة من هاتين الروايتين .

وقد روي هذا الحديث أيضا عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بـ زاكية ، لا بـ زكية .

3126 - كما قد حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا عمرو بن دينار ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : حدثني أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر هذا الحديث وقال فيه مكان زكية في الحديث الأول : زاكية .

[ ص: 146 ] قال أبو جعفر : وهذا الحرف فقد اختلف القراء في قراءاتهم إياه ، فقرأ بعضهم : بـ زكية ، فممن قرأ منهم كذلك : فيما أجاز لي علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد : عاصم ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي .

وممن قرأ منهم : زاكية فيما أجاز لي علي بن عبد العزيز ، عن أبي عبيد أيضا : أبو جعفر ، وشيبة ، ونافع ، وعبد الله بن كثير ، وأبو عمرو .

قال أبو عبيد : والقراءة عندنا : زاكية ؛ لأن أبا عمرو كان يفرق بينهما في التأويل ، ويقول : الزاكية : التي لم تذنب قط ، والزكية : التي قد أذنبت ، ثم غفر لها ، وإنما كان الخضر قتله صغيرا لم يبلغ الحنث .

قال أبو عبيد في هذه الإجازة : وكان الكسائي يراهما لغتين بمعنى واحد .

وكان ما قاله الكسائي في ذلك عندنا أولى مما قاله أبو عمرو فيه مما وافقه عليه أبو عبيد ، ثم نعود قائلين لأبي عبيد ، فنقول له : أما هذا المقتول وإن كان قد سمي غلاما ، فقد يجوز أن يسمى غلاما وهو بالغ ، وأما ما فيه من قوله : " ولو أدرك أرهقهما طغيانا وكفرا " فقد يكون ذلك الإدراك : الاحتلام ، وقد يجوز أن يكون خلافه من المعرفة بالأشياء المذمومة التي يرهق أبويه بها الطغيان والكفر .

وفي الآية ما قد دل على أنه قد كان بالغا ، وهو قول الله عز وجل [ ص: 147 ] حكاية عن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم في خطابه لنبيه الخضر عليه السلام : أقتلت نفسا زكية بغير نفس ، أي : أنها لو قتلت نفسا ، لكانت مستحقة لقتلها بها ، فلا يكون ذلك إلا وقد تقدم بلوغها ، وصارت زكاتها بطهارتها ، وقد شد ذلك قول الله عز وجل في قصة مريم : ليهب لك غلاما زكيا ، أي : طاهرا ، فوصفه أنه زكي بغير ذنب كان منه قبل ذلك حتى غفره الله عز وجل له .

وفيما ذكرنا من ذلك ما يجب به فساد ما قاله أبو عمرو في تفريقه بين الزكية والزاكية ، وفي تثبيت ما قاله الكسائي : إنهما لغتان بمعنى واحد .

[ ص: 148 ] والعرب قد تفعل مثل هذا فتقول : القاصي والقصي ، وأنشدني بعض أهل العربية من أهل اللغة الأعراب في خطابه لزوجته في ولد ولدته فأنكره :

لتقعدن مقعد القصي أو تحلفي بربك العلي     أني أبو ذيالك الصبي
يريبني بالمنظر التركي


ومقلة كمقلة الكركي

يريد بالقصي : القاصي ، ويريد بالعلي : العالي .

فقال قائل : ففيما قد ذكرته من هذه الأحاديث زيادة حرف في الخط ، وهي الألف الموجودة في " زاكية " المفقودة في " زكية " ، فكيف جاز أن يكون ذلك كذلك في المصاحف التي قد ذكرتها ؟ .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن ما ذكرناه من الاختلاف في زاكية و زكية ليس حكاية عن القرآن ، ولكنه حكاية [ ص: 149 ] عن كلام موسى صلى الله عليه وسلم للخضر عليه السلام بما كلمه به من ذلك ، وكان لسان موسى صلى الله عليه وسلم خلاف لسان نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أنزل القرآن بلسانه ، وكان ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث من زاكية ، ومن زكية حكاية عما كان من موسى صلى الله عليه وسلم مما خاطب به الخضر في ذلك ، والحكايات بالألسن عن الألسن التي كانت قبل ذلك بغير تلك الألسن ، فقد يجوز أن يحكى بالألفاظ المختلفة .

ومن ذلك قوله عز وجل في كتابه فيما حكاه عن نبيه زكريا صلى الله عليه وسلم من جوابه إياه لما سأله أن يجعل له آية ، فقال في موضع من كتابه : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ، وقال في موضع آخر منه : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ، إخبار عن معنى واحد ذكره في أحد الموضعين بالليالي التي تدخل فيها أيامها ، وفي الموضع الآخر بالأيام التي تدخل فيها لياليها .

فمثل ذلك حكايته عن موسى صلى الله عليه وسلم في وصف الغلام المقتول بالحال التي كان عنده عليها بأنه زكي في معنى " زاكي " ، وبأنه " زاكي " في معنى زكي ، ثم المرجوع إليه بعد ذلك في القراءة هو الموجود في المصاحف منها ، ففي بعضها إثبات الألف ، وفي بعضها سقوط الألف ، فدل ذلك أن ذلك واسع ، وأن ما قرئ به من تلك اللفظتين واسع غير معنف من مال إلى واحدة من الكلمتين ، وترك الأخرى ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية