الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك بن مروان فقال له : تكلم ، فقال له : إن الناس لا ينجون في القيامة من غصصها ومراراتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه ، فبكى عبد الملك وقال لأجعلن هذه الكلمة مثالا نصب عيني ما عشت .

ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عامر أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عنه أبو ذر وكان له صديقا فعاتبه فقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن : الرجل إذا ولى ولايته تباعد الله عنه .

ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال : أيها الأمير ، قرأت في بعض الكتب إن الله تعالى يقول؛ ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني ومن أعز ممن اعتز بي أيها الراعي السوء دفعت إليك غنما سمانا صحاحا ، فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاما تتقعقع فقال له والي البصرة أندري : ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك ، قال : لا ، قال : قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا .

وكان عمر بن عبد العزيز واقفا مع سليمان ابن عبد الملك فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة الرحل فقال له عمر : هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه ، ثم نظر سليمان إلى الناس فقال : ما أكثر الناس ، فقال عمر : خصماؤك يا أمير المؤمنين ، فقال له سليمان : ابتلاك الله بهم .

وحكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة ، فأرسل إلى أبي حازم فدعاه فلما دخل عليه قال له سليمان : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت فقال : لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم ، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال : يا أبا حازم كيف القدوم على الله قال يا أمير المؤمنين ، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه ، فبكى سليمان وقال ليت شعري ما لي عند الله قال أبو حازم : اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ، قال : فأين رحمة الله ؟ قال قريب من المحسنين ثم ، قال سليمان : يا أبا حازم ، أي عباد الله أكرم ؟ قال : أهل البر والتقوى قال : فأي الأعمال أفضل ، قال : أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال : فأي الكلام أسمع ، قال : قول الحق عند من تخاف وترجو قال فأي المؤمنين أكيس قال : رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها قال : فأي المؤمنين أخسر ؟ قال رجل خطا : في هوى أخيه ، وهو ظالم ، فباع آخرته بدنيا غيره قال سليمان ما تقول فيما نحن فيه ؟ قال أوتعفيني؟ قال: لا بد فإنها نصيحة تلقيها إلي قال : يا أمير المؤمنين إن : آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقد ارتحلوا فلو شعرت مما قالوا وما قيل لهم ، فقال له رجل من جلسائه بئسما قلت قال أبو حازم إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه .

قال وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد ، قال : أن تأخذه من حله فتضعه في حقه فقال سليمان : ومن يقدر على ذلك فقال ؟ : من يطلب الجنة ويخاف من النار .

فقال سليمان ادع لي .

فقال : أبو حازم اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة ، وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى فقال سليمان أوصني ، فقال : أوصيك وأوجز عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك .

وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن فلعل تلك الساعة قريبة .

ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال : تكلم يا أعرابي ، فقال : يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته ، فإن وراءه ما تحب إن قبلته ، فقال : يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا تأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه فقال الأعرابي : يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك حرب الآخرة ، سلم الدنيا ، فلا تأتمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعا وفي الأمة خسفا وعسفا وأنت مسئول عما اجترحوا ، وليسوا بمسئولين عما اجترحت ، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك ، فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره فقال له سليمان : يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك قال : أجل يا أمير المؤمنين ، ولكن لك لا عليك .

وحكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال : اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك ، وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا ، ومن الآخرة إلا قربا وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علما لا تجوزه فما أسرع ما تبلغ العلم ، وما أوشك ما يلحق بك الطالب وإنا وما نحن فيه زائل وفي الذي نحن إليه صائرون باق إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .

فهكذا كان دخول أهل العلم أعني علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم على الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم .

وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم .

وفي هذا غروران يغتر بهم الحمقى أحدهما أن يظهر أن قصدي في الدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ .

وربما يلبسون على أنفسهم بذلك ، وإنما الباعث لهم شهوة خفية للشهرة وتحصيل المعرفة عندهم وعلامة الصدق في طلب الإصلاح أنه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه في العلم ، ووقع موقع القبول وظهر به أثر ، الصلاح فينبغي أن يفرح به ، ويشكر الله تعالى على كفايته ، هذا المهم كمن وجب عليه أن يعالج مريضا ضائعا فقام بمعاجلته غيره فإنه يعظم به فرحه .

فإن كان يصادف في قلبه ترجيحا لكلامه على كلام غيره ، فهو مغرور الثاني أن يزعم أني أقصد الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة .

وهذا أيضا مظنة الغرور ومعياره ما تقدم ذكره .

التالي السابق


(ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك بن مروان ) يكنى أبا الوليد ، بويع له بالشام في رمضان سنة خمس وستين، ومات سنة ثمانين، (فقال له: تكلم، فقال: إن الناس لا ينجون يوم القيامة من غصصها) جمع غصة كغرفة وغرف، وهو ما يغص به الإنسان من لقمة أو غيظ على التشبيه، (ومراراتها ومعاينة الردى فيها) ، أي: الهلاك، (إلا من أرضى الله) عز وجل (بسخط نفسه، فبكى عبد الملك وقال لأجعلن هذه الكلمات مثالا) أي: ممثلة (نصب عيني) أي: بين عيني، (ما عشت) أي: ما دمت حيا، كناية عن شدة الملازمة، فقد روى الخليلي في الإرشاد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "من أرضى الله بسخط المخلوقين كفاه الله مؤنة المخلوقين، ومن أرضى المخلوقين بسخط الله سلط الله عليه المخلوقين" .

وروى أبو نعيم في الحلية من حديث عائشة : "من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله" . (ولما استعمل) أمير المؤمنين ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنه ( ابن عامر ) واليا على البصرة (أتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يسلمون عليه، (وأبطأ عنه أبو ذر ) رضي الله عنه، (وكان له صديقا فعاتبه) على ترك المجيء، (فقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل إذا ولي ولاية تباعد الله عنه ) .

قال العراقي : لم أقف له على أصل اهـ .

قلت: ولكن له شاهد من حديث أبي هريرة عند الترمذي : "وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدا" . وسنده صحيح، ومن حديث عبيد بن عمير عند هناد بن السري : "ومن تقرب من ذي سلطان ذراعا تباعد الله عنه باعا" ، وكل ذلك قد تقدم .

(و) يروى أنه (دخل مالك بن دينار) أبو يحيى البصري العابد تقدمت ترجمته مرارا، (على أمير البصرة فقال: أيها الأمير، قرأت في بعض الكتب) السماوية يقول الله تعالى: (من أحمق من السلطان ومن أجهل ممن عصاني) ، وخالف أمري: (ومن أعز ممن اعتز بي) وأطاعني، (أيها الراعي السوء) جعل السلطان بمنزلة الراعي الذي يرعى غنما، وجعل الرعية بمنزلة الغنم التي تحت رعايته، فقال: (دفعت إليك غنما سمانا صحاحا، فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاما تتقعقع) أي: تصوت أي: لم توردها مواردها، فأنت راعي سوء أسأت في الرعية، (فقال له والي البصرة : أتدري ما الذي جرأك علينا وجنبنا عنك، قال: لا، قال: قلة الطمع إلينا) ، أي: ليس لك طمع إلينا، (وترك الاهتمام بما في أيدينا) من الأموال والأعراض .

(و) يروى أنه (كان عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى (واقفا) بعرفة (مع سليمان بن عبد الملك ) وهو يومئذ خليفة، (فسمع) سليمان (صوت الرعد فجزع ووضع صدره في مقدمة الرحل) من خوفه، (فقال له عمر : هذا صوت رحمة) فإنه يبشر بالغيث، (فكيف إذا سمعت صوت عذابه، ثم نظر سليمان إلى الناس) وهم واقفون (فقال: ما أكثر الناس، فقال عمر :) هم (خصماؤك يا أمير المؤمنين، فقال) له ( سليمان : ابتلاك الله بهم) ، فكان الأمر كذلك; لأنه تولى الأمر بعده، (وحكي أن سليمان بن عبد الملك) بن مروان، يكنى أبا أيوب، بويع له بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين، (قدم المدينة وهو يريد مكة ، فأرسل إلى أبي حازم) سلمة بن دينار الأعرج الأبرر التمار المدني، ثقة عابد، مات في خلافة المنصور، (فدعاه) فأتاه، (فلما دخل عليه قال سليمان : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت) ، وهذه القصة قد أخرجها أبو نعيم في الحلية، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي ، حدثنا أبو يونس محمد بن أحمد المدني ، حدثنا أبو كرات عثمان بن إبراهيم بن غسان ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن كثير عن أبيه قال: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجا، فقال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم ، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: فأي جفاء رأيت في يا أمير المؤمنين؟ قال [ ص: 140 ] وجوه الناس أتوني ولم تأتني، قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك، فأي جفاء رأيت مني، فالتفتسليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا، فقال: يا أبا حازم ، ما لنا نكره الموت، (فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب) ، ونص الحلية: فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، (قال) : صدقت (فقال: يا أبا حازم ) ليت شعري، (كيف القدوم) ، ولفظ الحلية: كيف العرض (على الله) غدا؟ (قال) أبو حازم : (يا أمير المؤمنين، أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء كالآبق يقدم به على مولاه، فبكى سليمان ) حتى علا نحيبه واشتد بكاؤه، (فقال) : يا أبا حازم ، (ليت شعري ما أنا عند الله تعالى) غدا، وفي الحلية: ما لنا، (قال أبو حازم : اعرض نفسك) ، ولفظ القوت: عملك (على كتاب الله تعالى) ، قال: أين أجده من كتاب الله عز وجل؟ قال: (حيث قال: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ، قال سليمان : فأين رحمة الله؟ قال) أبو حازم : (قريب من المحسنين، قال سليمان : يا أبا حازم ، أي عباد الله أكرم؟ قال: أهل المروءة والتقى) ، ولفظ الحلية: من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنهى، (قال: فأي الأعمال أفضل، قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم) ، هذه الجملة ليست في الحلية، (قال: فأي الدعاء أسمع، قال: قول الحق عند من يخاف ويرجى) ، ولفظ القوت: قال: فما أعدل العدل؟ قال: كلمة صدق عند من ترجوه أو تخافه، قال: فما أسرع الدعاء إجابة؟ قال: دعاء المحسن للمحسن، قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى البائس الفقير لا يتبعها منا ولا أذى، (قال) : يا أبا حازم ، (فأي المؤمنين أكيس) ؟ ولفظ الحلية: من أكيس الناس؟ (قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها) ، ولفظ الحلية: ظفر بطاعة الله، فعمل بها ثم دل الناس عليها، (قال: فأي المؤمنين أخسر؟ قال: من أخطأ في هوى أخيه، وهو ظالم، فباع آخرته بدنيا غيره) ، ولفظ الحلية: قال: فمن أحمق الخلق؟ قال: رجل اغتاظ في هوى أخيه وهو ظالم، فباع آخرته بدنياه، وزاد في الحلية بعده، قال: يا أبا حازم ، هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا، قال: ولم؟ قال: إني أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلا، فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصير، قال: يا أبا حازم ، ارفع إلي حاجتك، قال: نعم، تدخلني الجنة وتخرجني من النار، قال: ذلك ليس إلي، قال: فما لي حاجة سواها، (قال سليمان ) : يا أبا حازم ، (ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: وتعفيني يا أمير المؤمنين، قال: لا، ولكن) ولفظ الحلية: قال: بل (نصيحة تلقى إلي، قال: يا أمير المؤمنين، إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا) ، ولفظ الحلية: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر فأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه، (مقتلة عظيمة، وقد ارتحلوا) ، أي: إلى دار الآخرة، (فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت، فقال: أبو حازم ) : كذبت، (إن الله تعالى قد أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال) سليمان : يا أبا حازم ، (كيف لنا أن نصلح) ، أي: (هذا الفساد، قال: أن) تدعوا عنكم الصلف وتمسكوا بالمروءة وتقسموا بالسوية وتعدلوا في القضية، قال: وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: (تأخذه من حله وتضعه في حقه) ، ولفظ الحلية: تأخذه بحقه وتضعه بحقه في أهله، (فقال سليمان : ومن يقدر على ذلك؟ قال: من يطلب الجنة ويخاف النار) ، هذه الجملة لم يذكرها صاحب الحلية في هذا السياق، وإنما أوردها في أثناء هذه القصة قبلها بإسناد آخر، قال: حدثنا أبو بكر ، حدثنا عبد الله ، حدثنا أبي ح، وحدثنا أبو حاتم ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا زياد بن أيوب ويعقوب قالوا: حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية ، حدثنا زمعة بن صالح ، قال: قال الزهري لسليمان بن عبد الملك : ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: وما عسيت أن أقول في العلماء إلا خيرا، فساقه إلى أن قال: فقال له سليمان : ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: أن تمضي ما في يديك لما أمرت به، وتكف عما نهيت عنه، فقال: سبحان الله، ومن يطيق هذا؟ قال: من طلب الجنة، وفر من النار، وما هذا فيما تطلب وتفر منه، ثم رجع إلى سياق الحلية فقال [ ص: 141 ] (فقال سليمان ) : يا أبا حازم (ادع) الله (لي، فقال: أبو حازم ) نعم، (اللهم إن كان سليمان وليك) ولفظ الحلية: من أوليائك، (فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوك) ، ولفظ الحلية من أعدائك، (فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى) ، قال سليمان : قط، قال أبو حازم : قد أكثرت وأطنبت إن كنت أهله، فإن لم تكن أهله فما حاجتك أن ترمي عن قوس لها وتر، (فقال) : يا أبا حازم ، (أوصني، فقال:) نعم سوف (أوصيك وأوجز) ، أي: أختصر، (عظم ربك ونزهه) ، ولفظ الحلية: نزه الله وعظمه، (أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك) ، ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم هذه مائة دينار أنفقها ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها وقال: ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي، إني أعيذك الله أن يكون سؤالك إياي هزلا وردي عليك بذلا إن موسى بن عمران عليه السلام لما ورد ماء مدين قال: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ، فسأل موسى ربه، ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان ولم تفطن الرعاء لما فطنتا له، فأتتا أباهما وهو شعيب عليه السلام فأخبرتاه خبره، قال شعيب : ينبغي أن يكون هذا جائعا، ثم قال لإحداهما: اذهبي ادعيه لي، فلما أتته أغطته وغطت وجهها ثم قالت: إن أبي يدعوك، فلما قالت: ليجزيك أجر ما سقيت لنا، كره موسى عليه السلام وأراد أن لا يتبعها، ولم يجد بدا أن يتبعها; لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها، وكانت امرأة ذات عجز، فكانت الرياح تضرب ثوبها فتصف لموسى عليه السلام عجزها، فيغض مرة ويعرض أخرى، فقال: يا أمة الله كوني خلفي، فدخل إلى شعيب عليه السلام والعشاء مهيأ، قال: كل، قال موسى : لا، قال شعيب : ألست جائعا؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا، وأخشى أن يكون أجر ما سقيت لهما، قال شعيب : لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي قرى الضيف وإطعام الطعام، قال: فجلس موسى عليه السلام فأكل، فإن هذه المائة دينار عوض مما حدثتك، فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحل منه، وإن كانت من مال المسلمين فلي فيها شركاء إن وازنتهم بي، وإلا فلا حاجة لي فيها، إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نكسوا وتعسوا وسقطوا من عين الله عز وجل وآمنوا بالجبت والطاغوت، كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم فشاركوهم في دنياهم وشركوا معهم في فتنتهم، قال ابن شهاب : يا أبا حازم ، إياي تعني، أو بي تعرض؟ قال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع، قال سليمان : يا ابن شهاب تعرفه؟ قال: نعم جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته كلمة قط، قال أبو حازم : إنك نسيت الله عز وجل فنسيتني، ولو أحببت الله عز وجل لأحببتني، قال ابن شهاب : يا أبا حازم تشتمني، قال سليمان : ما شتمك ولكن شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقا كحق القرابة، فلما ذهب أبو حازم قال رجل من جلساء سليمان : يا أمير المؤمنين تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم ؟ قال: لا، اهـ نص الحلية .

وقد أخرجه ابن عساكر أيضا مختصرا من طريق عبد الجبار بن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن جده، (ودخل أعرابي) من سكان البادية (على سليمان بن عبد الملك ) المتقدم ذكره، (فقال: تكلم يا أعرابي، فقال: يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام) فيه غلظة، (فاحتمله) مني، (وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه) أي: فكيف بمن نرجو نصحه؟ (قال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك) أي: أحاط بك، (رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم) ، أي: اختاروا لأنفسهم ما هو سوء، (وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم) فآثروا رضاك على رضا الله تعالى، (خانوك في الله تعالى ولم يخونوا الله فيك) ، فهم (حرب للآخرة، سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه) من أمور الرعية، (فإنهم لم يألوا) أي: لم يقصروا (في الأمانة تضييعا وفي الأمة خسفا) ، أي: ذلا وهوانا، (وعسفا) أي: جورا وظلما، (وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا مسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره) ، أي: فهو كالشمعة تحرق نفسها وتضيء على غيرها، (فقال سليمان : أما إنك يا أعرابي قد سللت لسانك) سل سيفك، (وهو أقطع من سيفك) لو سللته، (قال: أجل) ، أي: نعم، (يا أمير [ ص: 142 ] المؤمنين، ولكن لك لا عليك) أي: نفعه عائد لك ولا عليك فيه ضرر، (وحكي أن أبا بكرة) هو نفيع بن الحارث الثقفي الصحابي وهو أخو زياد لأمه، وهي سمية أمة الحارث بن كلدة ، وكان أبو بكرة رجلا صالحا ورعا، وكان زياد استعمل ابنه عبيد الله على فارس وابنه روادا على دار الرزق، وابنه عبد الرحمن على بيت المال، قال الحسن البصري : مر بي أنس بن مالك وقد بعثه زياد إلى أبي بكرة يعاتبه، فانطلقت معه فدخلنا عليه، وهو مريض، فأبلغه عنه، فقال: إنه يقول ألم أستعمل أولاده على كذا وكذا؟ فقال: هل زاد على أن أدخلهم النار؟ قال: فرجعنا مخصومين قال ابن سعد والواقدي : مات أبو بكرة بالبصرة في ولاية زياد سنة خمسين، وقال غيرهما: سنة إحدى وخمسين، (دخل على معاوية) بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو يومئذ خليفة، (فقال له: اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك، وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا، ومن الآخرة إلا قربا) ، فإن الأيام والليالي مثل المسافات والمنازل للمسافر، فما من يوم وليلة إلا ويقطع منها جانبا، ويؤخرها إلى وراء، (وعلى أثرك طالب لا تفوته) أي: لا تسبقه بالفوت، (وقد نصب لكم علم لا تجوزه) أي: لا تتعداه، (فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك ما يلحق بك) الطالب، (وإنا وما نحن فيه) كله (زائل) ، فإن (وفى الذي صائرون إليه) ، أي: راجعون (باق) ، لا يزول (إن خيرا فخير، وإن شرا فشر) ، أي: إن كان العمل خيرا، فإنه يجزى خيرا، وإن كان شرا فيجزى شرا، (فهكذا كان دخول أهل العلم ) والمعرفة بالله (على السلاطين أعني) بهم (علماء الآخرة) لا علماء الدنيا، (فأما علماء الدنيا فيدخلون) عليهم، (فيتقربون إلى قلوبهم) بالاستمالة (فيدلونهم على) تتبع (الرخص ويستنبطون لهم دقائق الحيل وطرق السعة فيما يوافق أغراضهم) فيسهلون لهم الأمور ويفتون لهم بما تميل إليه نفوسهم، (فإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في طريق الوعظ) ومعرض النصيحة، (لم يكن قصدهم الإصلاح) لهم، (بل) قصدهم بذلك (اكتساب الجاه والقبول عندهم، وفي هذا غرور أن يغتر بهما الحمقى) منهم (أحدهما أن يظهروا أن قصدهم بالدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ) ، والتذكير، (وربما يلبسون على أنفسهم ذلك، وإنما الباعث لهم شهوة خفية للشهرة) أي: لأجلها، (و) أجل (تحصيل المعرفة عندهم وعلامة الصدق في طلب الإصلاح أنه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه)وأسنانه وأشكاله (من العلماء، ووقع موقع القبول، وظهرت قرائن الصلاح) في الموعوظ، (فينبغي أن يفرح بذلك، ويشكر الله تعالى على كفايته، هذا المهم) ولو على يد غيره، (كمن وجب عليه أن يعالج مريضا ضائعا ليس له أحد فقام بمعالجته غيره) ، وكفاه مؤنته، (فإنه لا محالة يعظم بذلك فرحه) ، ويزداد سروره، (وإن كان يصادف في قلبه ترجيحا لكلامه على كلام غيره، فهو مغرور) ، وفي وعظه معذور .

(الغرور الثاني أن يزعم أني قصدت بالدخول عليهم الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة ) عليه، إما من قبلهم أو من قبل أتباعهم، (وهذا أيضا مظنة الغرور ومعياره ما تقدم ذكره) ، وقد روى البيهقي عن يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري قال: وإياك أن تخدع، فيقال لك: ترد مظلمة تدفع عن مظلوم، فإن هذه خدعة إبليس اتخذها القراء سلما ، وقال ابن باكويه الشيرازي : أخبرنا أبو العلاء ، سمعت أحمد بن محمد التستري ، سمعت زيان بن علي الدمشقي يقول: سمعت صالح بن خليفة الكوفي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: إن فجار القراء اتخذوا سلما إلى الدنيا فقالوا: ندخل على الأمراء ونفرج عن المكروب ونكلم في محبوس .



(فصل) :

نذكر فيه ما يناسب لسياق المصنف في هذا الباب مما لم يذكره هو فنقول: روى أبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن مروان قدم المدينة ، فبعث حاجبه إلى سعيد بن المسيب ، فقال: أجب أمير المؤمنين قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه، فقال: لست من حداثه فرجع الحاجب فأخبره، فقال: دعه ، وقال البخاري في تاريخه: سمعت آدم بن أبي إياس يقول: شهدت حماد بن سلمة ودعاه السلطان فقال: اذهب آتي [ ص: 143 ] هؤلاء، والله لا فعلت .

وأخرج أبو الحسن بن فهر في كتاب فضائل مالك عن عبد الله بن رافع وغيره قال: قدم هارون الرشيد المدينة فوجه البرمكي إلى مالك وقال له: احمل إلي الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فقال مالك للبرمكي : أقرئه مني السلام، وقل له إن العلم يزار ولا يزور، فرجع البرمكي إلى هارون فقال له: يا أمير المؤمنين يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك، اعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه، فقال: قل له: يا أمير المؤمنين لا تكن أول من يضع العلم، فيضعك الله .

وروى غنجار في تاريخه عن ابن مستنير أن سلطان بخارى بعث إلى محمد بن إسماعيل يقول له: احمل إلي كتاب الجامع في التاريخ لأسمع منك، فقال لرسوله: قل له: أنا لا أذل العلم ولا آتي أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي أو في داري ، وقال نعيم ابن الهيعم في جزئه: أخبرنا خلف بن تميم عن أبي جماح الكلاعي عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، قال: أفرجتم جباهكم وفرطحتم نعالكم وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم، أما إنكم لو جلستم في بيوتكم لكان خيرا لكم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم ، وقال الزجاج في أماليه: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن ، أخبرني عبد الرحمن بن أخير الأصمعي عن عمه قال: مر الحسن البصري بباب عمر بن هبيرة ، وعليه القراء، فسلم ثم قال: ما لكم جلوسا قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم وقصرتم أكمامكم وفلطحتم نعالكم، أما والله لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم فضحتم القراء فضحكم الله .

وأخرج ابن النجار عن الحسن أنه قال: إن سركم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا أيديكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم، ولا تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم .

وقال ابن باكويه الشيرازي في كتاب أخبار الصوفية: حدثنا سلامة بن أحمد التكريتي ، حدثنا محمد بن علي التكريتي ، حدثنا يعقوب بن إسحاق ، حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة ، فجاءه كتاب من عياله من الكوفة : بلغت الحاجة بنا أنا نقلي النوى فنأكله، فبكى سفيان فقال بعض أصحابه: يا أبا عبد الله لو مررت إلى السلطان صرت إلى ما تريد، فقال سفيان : والله لا أسال الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها قال: وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، حدثنا ابن حسان ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: قلت: لأبي سليمان تخالف العلماء، فغضب وقال: رأيت عالما يأتي باب السلطان فيأخذ دراهمه، وقال الآمدي : حدثني أبو العباس ، قال: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم ، فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضر ابن الأعرابي وأبا نصر صاحب الأصمعي ، ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور، فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد، فغضب إسحاق من قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم، فلم يوجه إليه إسحاق وقطع الرزق عنه، وكتب إلى عبد الله بالخبر، فكتب إليه عبد الله لقد صدق أبو عبيد في قوله: وقد أضعفت الرزق من أجل فعله، فأعطه ما فاته، ثم زد عليه بعد ذلك مما يستحقه .

وأخرج ابن عساكر من طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن يزيد قال: حدثنا أبو حازم أن سليمان بن هشام قدم المدينة ، فأرسل إلى أبي حازم ، فدخل عليه قال: فسلمت عليه، وأنا متكئ على عصاي فقيل: ألا تتكلم؟ قلت: وما أتكلم به ليست لي حاجة فأتكلم فيها، وإنما جئت لحاجتكم التي أرسلتم إلي فيها، وما كل من يرسل إلي آتيه، ولولا الفرق من شركم ما جئتكم، إني أدركت أهل الدنيا تبعا لأهل العلم حيث كانوا، يقضي أهل العلم لأهل الدنيا حوائج دنياهم وآخرتهم، ولا يستعلي أهل الدنيا على أهل العلم لنصيبهم من العلم، ثم حال الزمان فصار أهل العلم تبعا لأهل الدنيا حيث كانوا، فدخل البلاء على الفريقين جميعا ترك أهل الدنيا النصيب الذي كانوا يتمسكون به من العلم حين رأوا أهل العلم قد جاءوهم، وضيع أهل العلم جسم ما قسم لهم باتباعهم أهل الدنيا .

وأخرج ابن أبي الدنيا والخرائطي وابن عساكر عن زمعة بن صالح قال: كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم يعزم عليه أن يرفع إليه حوائجه [ ص: 144 ] فكتب إليه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تعزم علي أن أرفع حوائجي إليك، وهيهات رفعت حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبلت، وما أمسك عني منها رضيت .

وأخرج أبو نعيم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال: أخبرني مخبر أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم ، فأتاه وعنده الأفريقي والزهري وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء ، وكانوا فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح الأمراء وصلاح العلماء، فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم فأتوا للأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم، فخربت العلماء على الأمراء وخربت الأمراء على العلماء .

وأخرج البيهقي في الزهد، وابن عساكر عن سفيان قال: قال بعض الأمراء لأبي حازم : ارفع إلي حاجتك، قال: هيهات هيهات، رفعتها إلى من لا تختزل دونه الحوائج فما أعطاني منها قنعت، وما زوى عني منها رضيت، كان العلماء فيما مضى يطلبهم السلطان وهم يفرون منه ، وإن العلماء اليوم طلبوا العلم حتى إذا جمعوه بحذافيره أتوا به أبواب السلاطين، والسلاطين يفرون منهم، وهم يطلبونهم .

وأخرج ابن عساكر من طريق أبي قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه قال: كان الفقهاء كلهم بالمدينة يأتون عمر بن عبد العزيز خلا ابن المسيب ، فإن عمر كان يرضى أن يكون بينهما سفير، وأنا كنت الرسول بينهما .

وأخرج ابن النجار في تاريخه عن مفلح بن الأسود قال: قال المأمون ليحيى بن أكثم : إني أشتهي أن أرى بشر بن الحارث ، قال: إذا اشتهيت يا أمير المؤمنين، فإلى الليل ولا يكون هنا ثالث، فركبا فدق يحيى الباب فقال بشر : من هذا؟ قال: هذا من تجب عليك طاعته، قال: وأي شيء تريد؟ قال: أحب لقاءك، قال: طائعا أو مكرها، قال: ففهم المأمون ، فقال ليحيى : اركب فمرا على رجل يقيم الصلاة صلاة العشاء الأخيرة فدخلا يصليان، فإذا الإمام يحسن القراءة، فلما أصبح المأمون وجه إليه، فجاء به فجعل يناظره في الفقه وجعل الرجل يخالفه ويقول: القول في هذه المسألة خلاف هذا، فغصب المأمون ، فلما كثر خلافه قال: عهدي بك كأنك تذهب إلى أصحابك فتقول: خطأت أمير المؤمنين، فقال: والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي من أصحابي إن يعلموا أني قد جئتك، فقال المأمون : الحمد لله الذي جعل في رعيتي من يستحي أن يجيئني، ثم سجد لله شكرا والرجل إسحاق بن إبراهيم الحزلي .

وأخرج ابن النجار في تاريخه عن سفيان قال: ما زال العلم عزيزا حتى حمل إلى أبواب الملوك، فأخذوا عليه أجرا ، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم، ومنعهم العمل به ، وقال ابن الحاج في المدخل ينبغي للعالم بل يتعين عليه أن لا يتردد لأحد من أبناء الدنيا; لأن العالم ينبغي أن يكون الناس على بابه لا عكس الحال أن يكون هو على بابهم، ولا حجة له في كونه يخاف من عدو وحاسد وما أشبههما ممن يخشى أنه يشوش عليه أو يرجو أحدا منهم في دفع شيء مما يخشاه أو يرجو أن يكون ذلك سببا لقضاء حوائج المسلمين من جلب مصلحة أو دفع مضرة عنهم، فهذا ليس فيه عذر، أما الأول فلأنه إذا كان بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وإذا كان خائفا مما ذكر فذلك أعظم من إشراف النفس، وقد يسلط عليه من يتردد إليه على معلومه عقوبة عليه معجلة .

وأما الثاني فهو يرتكب أمرا محذورا محققا لأجل محذور مظنون توقعه في المستقبل، وقد يكون وقد لا يكون وهو مطلوب في الوقت لعدم ارتكاب ذلك الفعل المذموم شرعا، بل الإعانة على قضاء حوائجه وحوائج المسلمين إنما هو بالانقطاع عن أبواب هؤلاء، والتعويل على الله سبحانه والرجوع إليه فإنه سبحانه هو القاضي للحوائج والدافع للمخاوف والمسخر لقلوب الخلق، والمقبل بها على ما شاء كيف شاء، قال تعالى خطابا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ، فذكر سبحانه هذا في معرض الامتنان على نبيه صلى الله عليه وسلم، والعالم إذا كان متبعا له صلى الله عليه وسلم سما في التعويل على ربه سبحانه والسكون إليه دون مخلوقاته، فإنه سبحانه يعامله بهذه المعاملة اللطيفة التي عامل بها نبيه صلى الله عليه وسلم [ ص: 145 ] لبركة الاتباع له صلى الله عليه وسلم وليسلم بذلك من التردد إلى أبواب هؤلاء، كالذي يفعله بعض الناس وهو سم قاتل، ويا ليتهم لو اقتصروا على ما ذكر لا غير، بل يضمون إلى ذلك ما هو أشد وأشنع، وهو أنهم يقولون: إن ترددهم إلى أبوابهم من باب التواضع، أو من باب إرشادهم إلى الخير إلى غير ذلك مما يخطر لهم، وهو كثير قد عمت به البلوى، وإذا اعتقدوا ذلك فقد قل الرجاء عن توبتهم ورجوعهم، وقال في موضع آخر: ينبغي للعالم إذا قطع عنه معلوم المدرسة لا يترك ما كان عليه من الاجتهاد، ولا يتبرم ولا يتضجر ; لأنه قد يكون المعلوم قد قطع عنه اختبارا من الله تعالى كي يرى صدقه في علمه وعمله، فإن رزقه مضمون له لا ينحصر في جهة دون أخرى، قال صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم تكفل الله برزقه" ، ومعناه يسر له من غير تعب ولا مشقة، وإن كان الله تعالى تكفل برزق الكل، ولكن حكمة تخصيص العالم، بل لذكر أن ذلك يتيسر له بلا تعب ولا مشقة، فجعل نصيبه من التعب والمشقة في الدرس والمطالعة والتفهم للمسائل وإلقائها، وذلك من الله تعالى على سبيل اللطف به والإحسان إليه، فينبغي له أن يصون هذا المنصب الشريف من التردد لمن يرجى أنه معين على إطلاق المعلوم، أو المتحدث فيه أو إنشاء معلوم عوضه، والعالم أولى أن يثق بربه عز وجل في المنع والعطاء، ولا عذر له في الطلب لأجل المعاملة; لأنه إن ترك ذلك تقية على هذا المنصب لم يضيع الله الكريم قصده وفتح له من نصيبه ما هو أحسن له من ذلك، وأعانه وسد خلته على ما شاء كيف شاء، وليس رزقه بمخصوص بجهة بعينها، إذ عادة الله تعالى أبدا مستمرة على أنه سبحانه يرزق من هذا حاله من غير باب يقصده أو يؤمله; لأن مراد الله تعالى من العلماء انقطاعهم إليه وتعويلهم في كل أمورهم عليه ، ولا ينظرون إلى الأسباب، بل إلى مسبب الأسباب ومدبرها والقادر عليها، وكيف لا يكون العالم كذلك وهو المرشد للخلق والموضح للطريق المستقيم للسلوك إلى الله تعالى، ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه من حيث لا يحتسب اهـ كلام ابن الحاج ملخصا .

وفي طبقات الحنفية لعبد القادر القرشي في ترجمة علي بن الحسن الصندلي أن السلطان ملك شاه السلجوقي قال له: لم لا تجيء إلي؟ قال: أردت أن تكون خير الملوك حيث تزور العلماء، ولا أكون من شر العلماء حيث أزور الملوك .

وعن خلف بن إبراهيم قال: سمعت إبراهيم بن أدهم ينشد:


أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ولا أراهم رضوا في العيش بالدون فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما
استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وقال القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن الأنباري ، حدثني أبي قال: بعث سليمان المهبلي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وسأله في صحبته، فرد عليه الدراهم وكتب إليه بأبيات


أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
شحا بنفسي أني لا أرى أحدا يموت هزلا ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال

وفي هذا الباب غير ما ذكرنا، وإنما وقع الاقتصار على القدر المذكور لئلا يطول الكتاب .




الخدمات العلمية