الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .

الجنوب : جمع جنب وهو معروف . المرابطة : الملازمة في الثغر للجهاد ، وأصلها من ربط الخيل .

( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) : قيل : نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قرأ عليهم الرسول القرآن : إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا . ورد عليه ابن رواحة فقال : أغشنا به في مجالسنا يا رسول الله . وتساب المسلمون والمشركون واليهود . وقيل : فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص . وقيل : في كعب بن الأشرف كان يحرض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره ، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك ، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فإنه يكثر تألمه . والآية مسوقة في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين .

والظاهر في قوله : " لتبلون " أنهم المؤمنون . وقال عطاء : المهاجرون ، أخذ المشركون رباعهم فباعوها ، وأموالهم فنهبوها . وقيل : الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد . والظاهر أن هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل الله وفي تكاليف الشرع ، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض ، أو فقد الأقارب والعشائر ، أو بالقتل والجراحات والأسر ، وأنواع المخاوف ، أقوال . وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف ، أو على سبيل الكثرة ؛ لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس . والأذى : اسم جامع [ ص: 136 ] في معنى الضرر ، ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه ، وفي الله تعالى وأنبيائه ، والمطاعن في الدين ، وتخطئة من آمن ، وهجاء كعب وتشبيبه بنساء المؤمنين .

( وإن تصبروا ) : على ذلك الابتلاء وذلك السماع .

( وتتقوا فإن ذلك ) : أي فإن الصبر والتقوى .

( من عزم الأمور ) : قيل : من أشدها وأحسنها . والعزم : إمضاء الأمر المروى المنقح . وقال النقاش : العزم هو الحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين . قال ابن عطية : وهذا خطأ . الحزم جودة النظر في الأمر ، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت ) فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم . والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم . وقال الزمخشري : " من عزم الأمور " من معزومات الأمور ، أي : مما يجب عليه العزم من الأمور ، أو مما عزم الله أن يكون ، يعني : أن ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا . وقيل : " من عزم الأمور " من جدها . وقال مجاهد في قوله : فإذا عزم الأمر ، أي فإذا وجد الأمر .

( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) : هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكتموه ونبذوه . قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وابن جريج . وقال قوم : هم اليهود والنصارى . وقال الجمهور : هي عامة في كل من علمه الله علما ، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : بالياء فيهما على الغيبة ، إذ قبله " الذين أوتوا الكتاب " وبعده " فنبذوه " . وقرأ باقي السبعة بالتاء للخطاب ، وهي كقوله : ( لا تعبدون إلا الله ) قرئ بالتاء والياء ، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب . وقيل : هو للنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : للميثاق . وقيل : للإيمان بالرسول لقوله :

( لتؤمنن به ولتنصرنه ) وارتفاع ولا تكتمونه لكونه وقع حالا ، أي : غير كاتمين له ، وليس داخلا في المقسم عليه . قالوا وللحال لا العطف ، كقوله : ( فاستقيما ولا تتبعان ) وقوله : " ولا يسأل " في قراءة من خفف النون ورفع اللام . وقيل : الواو للعطف ، وهو من جملة المقسم عليه . ولما كان منفيا بلا لم يؤكد ، تقول : والله لا يقوم زيد ، فلا تدخله النون . وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح ؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل لا ؛ حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال ، إذ المضارع المنفي بلا لا تدخل عليه واو الحال . وقرأ عبد الله : " ليبينونه " بغير نون التوكيد . قال ابن عطية : وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد ، قاله سيبويه . انتهى . وهذا ليس معروفا من قول البصريين ، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة . والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام ، فيجيزون : والله لأقوم ، ووالله أقومن . وقال الشاعر :


وعيشك يا سلمى لأوقن إنني لما شئت مستحل ولو أنه القتل



وقال آخر :


يمينا لأبغض كل امرئ     يزخرف قولا ولا يفعل



وقرأ ابن عباس : " ميثاق النبيين لتبيننه للناس " ، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس ؛ إذ يستحيل عوده على النبيين ، أي : فنبذه الناس المبين لهم الميثاق ، وتقدم تفسير معنى : ( فنبذوه وراء ظهورهم ) في قوله : ( نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم ) .

( واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) : وتقدم تفسير مثل هذه الجملة والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة .

( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ) : نزلت في المنافقين ، كانوا يتخلفون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم الله بهذه الآية . قاله أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة . وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود . وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى : [ ص: 137 ] ( إنه كان وعده مأتيا ) أي مفعولا . فمعنى بما أتوا : بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبي : بما فعلوا . وفي الذي فعلوه وفرحوا به - أقوال . أحدها : كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه ، قاله ابن عباس . الثاني : ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء ، قاله ابن عباس أيضا . الثالث : قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وكتمهم أمر الرسول ، قاله ابن جبير . الرابع : كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بنبي ، فاثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به . وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء الله ، قاله الضحاك والسدي . الخامس : قول يهود خيبر للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا ، قاله السدي . السادس : تجهيز اليهود جيشا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقهم على ذلك الجيش ، قاله النخعي . السابع : إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهروا ، ذكره الزجاج . الثامن : اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئا نافعا ولا صحيحا ، قاله مجاهد . التاسع : تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال إنهم في حكم المجاهدين ، قاله أبو سعيد الخدري .

والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود . قيل : ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو علي : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به . وقد تجيء هذه الأفعال لغوا لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله :


وما خلت أبقى بيننا من مودة     عراض المذاكي المشنقات القلائصا



وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد . قال ابن عطية : فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلا من الأول ، وقد تعدى إلى المفعولين ، وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله :


بأي كتاب أم بأية سنة     ترى حبهم عارا علي وتحسب



أي : وتحسب حبهم عارا علي . والوجه الثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفا على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين . وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما ) وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك . وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرر في علم النحو .

وقرأ حمزة ، و الكسائي ، و عاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطابا للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون . والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفا في المفعولين . وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب . والوجه الثاني ذكره الزمخشري ، قال : وأحد المفعولين ( الذين يفرحون ) ، والثاني ( بمفازة ) . وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين . وقرئ لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب [ ص: 138 ] وضم الباء فيهما خطابا للمؤمنين . ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين . وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما . ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ؛ لاختلاف الفعلين ؛ لاختلاف الفاعل . وإذا كان ( فلا يحسبنهم ) توكيدا أو بدلا ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء . وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر :


حتى تركت العائدات يعدنه     يقلن فلا تبعد وقلت له ابعد



وقال آخر :


لما اتقى بيد عظيم جرمها     فتركت ضاحي كفه يتذبذب



أي : لا تبعد ، وأي تركت . وقرأ النخعي ومروان بن الحكم : بما آتوا بمعنى : أعطوا . وقرأ ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنيا للمفعول . وتقدمت الأقوال في ( أتوا ) ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين .

وفي حرف عبد الله : ( بما لم يفعلوا بمفازة ) ، وأسقط ( فلا يحسبنهم ) . و ( مفازة ) مفعلة من فاز ، وهي للمكان ، أي : موضع فوز ، أي : نجاة . وقال الفراء : أي يبعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه . وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما ليس فيه وحبه المدح عليه منهي عنه ومذموم شرعا . وقال تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون ) وفي الحديث الصحيح : ( المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور ) وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : ولهم عذاب أليم . وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا .

( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ) ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك ، وأنه قادر عليهم ، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم ، فليسوا بناجين من العذاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية