الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 12 ] المبحث الثالث فيما شرعت النية لأجله

                المقصود الأهم منها : تمييز العبادات من العادات ، وتمييز رتب العبادات بعضها من بعض ، كالوضوء والغسل ، يتردد بين التنظف والتبرد ، والعبادة ، والإمساك عن المفطرات قد يكون للحمية والتداوي ، أو لعدم الحاجة إليه ، والجلوس في المسجد ، قد يكون للاستراحة ، ودفع المال للغير ، قد يكون هبة أو وصلة لغرض دنيوي ، وقد يكون قربة كالزكاة ، والصدقة ، والكفارة ، والذبح قد يكون بقصد الأكل ، وقد يكون للتقرب بإراقة الدماء ، فشرعت النية لتمييز القرب من غيرها ، وكل من الوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها قد يكون فرضا ونذرا ونفلا ، والتيمم قد يكون عن الحدث أو الجنابة وصورته واحدة ، فشرعت لتمييز رتب العبادات بعضها من بعض .

                ومن ثم ترتب على ذلك أمور :

                أحدها : عدم اشتراط النية في عبادة لا تكون عادة أو لا تلتبس بغيرها ، كالإيمان بالله تعالى ، والمعرفة والخوف والرجاء ، والنية ، وقراءة القرآن ، والأذكار ; لأنها متميزة بصورتها ، نعم يجب في القراءة إذا كانت منذورة ، لتمييز الفرض من غيره ، نقله القمولي في الجواهر عن الروياني ، وأقره .

                وقياسه : إن نذر الذكر والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كذلك ، نعم إن نذر الصلاة عليه كلما ذكر ، فالذي يظهر لي أن ذلك لا يحتاج إلى نية لتميزه بسببه ، وأما الأذان : فالمشهور أنه لا يحتاج إلى نية . وفيه وجه في البحر ، وكأنه رأى أنه يستحب لغير الصلاة ، كما سيأتي ، فأوجب فيه النية للتمييز .

                وأما خطبة الجمعة : ففي اشتراط نيتها والتعرض للفرضية فيها خلاف في الشرح والروضة بلا ترجيح ، وفي الكفاية : أنه مبني على أنها بمثابة ركعتين . ومقتضاه ترجيح أنها شرط ، وجزم به الأذرعي في التوسط ، وعندي خلافه ، بل يجب أن لا يقصد غيرها .

                وأما التروك : كترك الزنا وغيره ، فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي بكونه لم يوجد ، وإن يكن نية ، نعم يحتاج إليها في حصول الثواب المترتب على الترك . ولما ترددت إزالة النجاسة بين أصلين : الأفعال من حيث إنها فعل ، والتروك من حيث إنها قريبة منها جرى في اشتراط النية خلاف ، ورجح الأكثرون عدمه تغليبا لمشابهة التروك .

                ونظير ذلك أيضا : غسل الميت ، والأصح فيه أيضا عدم الاشتراط ; لأن القصد منه التنظيف كإزالة النجاسة .

                ونظيره أيضا نية الخروج من الصلاة ; هل تشترط ؟ والأصح لا قال الإمام : لأن النية إنما تليق بالإقدام ، لا بالترك .

                [ ص: 13 ] ونظيره أيضا : صوم التمتع والقران ، هل يشترط فيه نية التفرقة ؟ والأصح : لا ; لأنها حاصلة بدونها .

                ونظيره أيضا : نية التمتع هل تشترط في وجوب الدم ؟ والأصح : لا ; لأنه متعلق بترك الإحرام للحج من الميقات ، وذلك موجود بدونها .

                ونظيره أيضا : نية الخلطة ، هل تشترط ؟ والأصح : لا ; لأنها إنما أثرت في الزكاة للاقتصار على مؤنة واحدة وذلك حاصل بدونها . ومقابل الأصح في الكل راعى جانب العبادات ، فقاس غسل الميت على غسل الجنابة ، والتمتع على الجمع بين الصلاتين ، فإنه جمع بين نسكين ، ولهذا جرى في وقت نيته الخلاف في وقت نية الجمع ، وفي الجمع وجه أنه لا يشترط فيه النية ، واختاره البلقيني ، قال : لأنه ليس بعمل ، وإنما العمل الصلاة ، وصورة الجمع حاصلة بدون نية ولهذا لا تجب في جمع التأخير ، نعم يجب فيه أن يكون التأخير بنية الجمع .

                ` ويشترط كون هذه النية في وقت الأولى بحيث يبقى من وقتها بقدر ما يسعها ، فإن أخر بغير نية الجمع حتى خرج الوقت أو ضاق بحيث لا يسع الفرض عصى وصارت الأولى قضاء . جزم به الأصحاب ، ويقرب منه ما ذكر النووي في شرح المهذب .

                والتحقيق أن الأصح في الصلاة وفي كل واجب موسع إذا لم يفعل في أول الوقت أنه لا بد عند التأخير من العزم على فعله في أثناء الوقت والمعروف في الأصول خلاف ذلك ، وقد جزم ابن السبكي في جمع الجوامع بأنه لا يجب العزم على المؤخر .

                وأورد عليه ما ذكره النووي فيما تقدم فأجاب في منع الموانع : بأن مثل هذا لا يؤخذ من التحقيق ; ولا من شرح المهذب ، وأن القول بالوجوب لا يعرف إلا عن القاضي ومن تبعه .

                قال : ولولا جلالة القاضي لقلت : إن هذا من أفحش الأقوال ، ولولا أني وجدته منصوصا في كلامه ، منقولا في كلام الأثبات عنه ، لجوزت الزلل على الناقل لسفاهة هذا القول في نفسه ، وهو قول مهجور في هذه الملة الإسلامية ، أعتقد أنه خارق لإجماع المسلمين ، ليس لقائله شبهة يرتضيها محقق ، وهو معدود من هفوات القاضي ، ومن العظائم في الدين ، فإنه إيجاب بلا دليل . انتهى .

                ضابط :

                قال بعضهم : ليس لنا عبادة يجب العزم عليها ولا يجب فعلها سوى الفار من الزحف لا يجوز إلا بقصد التحيز إلي فئة ، وإذا تحيز إليها لا يجب القتال معها في الأصح ; لأن العزم مرخص له في الانصراف لا موجب للرجوع .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية