الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              219 [ ص: 129 ] (باب منه) وأورده النووي في الباب المتقدم

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 186 - 189 ج2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن صالح بن صالح الهمداني ، عن الشعبي ، قال: رأيت رجلا من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان يقولون في الرجل إذا أعتق أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته. فقال الشعبي : حدثني أبو بردة بن أبي موسى ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ، ثم قال الشعبي للخراساني : خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن صالح بن صالح ) بن مسلم بن حيان، ولقب حيان «حي» «الهمداني» بإسكان الميم «عن الشعبي» بفتح الشين المعجمة واسمه عامر (قال: رأيت رجلا من أهل «خراسان» سأل الشعبي، فقال: يا أبا عمرو! [ ص: 130 ] إن من قبلنا من أهل «خراسان» يقولون في الرجل: إذا أعتق أمته ثم تزوجها: فهو كالراكب بدنته.

                                                                                                                              فقال الشعبي حدثني: «أبو بردة» اسمه عامر. وقيل: الحارث «بن أبي موسى» اسمه عبد الله بن قيس (عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، وآله قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه، فله أجران» .

                                                                                                                              «فيه» ، فضيلة من آمن من أهل الكتاب بنبينا.

                                                                                                                              وأن له أجرين؛ لإيمانه بنبيه قبل النسخ، والثاني لإيمانه بنبينا.

                                                                                                                              وعبد مملوك أدى حق الله تعالى] عليه، وحق سيده فله أجران» .

                                                                                                                              «فيه» فضيلة العبد الملوك القائم بحقوق الله تعالى، وحقوق سيده، «ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران» .

                                                                                                                              «فيه» فضيلة من أعتق مملوكته وتزوجها.

                                                                                                                              وليس هذا من الرجوع في الصدقة في شيء؛ بل هو إحسان إليها بعد إحسان.

                                                                                                                              «ثم قال الشعبي للخراساني: خذ هذا الحديث بغير شيء، فقد كان [ ص: 131 ] الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة» ، وأصل هذا الحديث متفق عليه.

                                                                                                                              «وفيه» جواز قول العالم مثل هذا تحريضا للسامع على حفظ ما قاله.

                                                                                                                              «وفيه» بيان ما كان السلف عليه من الرحلة إلى البلدان البعيدة في حديث واحد أو مسألة واحدة. قاله النووي:

                                                                                                                              قلت:

                                                                                                                              والرحلة هذه من خصائص أهل الحديث في طلبه، وقل من يشركهم في ذلك من غير أهل العلم والطلب.

                                                                                                                              قال السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير اليماني رضي الله عنه في كتابه «إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد» ألقى الله في قلوب أقوام محبة السنة النبوية، والآثار السلفية، ورزقهم همما تناطح السماك، وتطاول الأطلس من الأفلاك، فارتحلوا لطلبها من الأقطار، وفارقوا الأوطان والإخوان والأوطار، وطووا في حبها الفيافي والقفار، وقنعوا من الدنيا بالكفاف، وتركوا لغيرهم اللذات والإتراف، وأخذوا الزهد شعارا، والقناعة دثارا، فسهر الأجفان إليهم: ألذ وأطيب من المنام، والجوع عندهم أشهى من الامتلاء من نفيس الطعام، يرتحلون لسماع الحديث الواحد من الأقطار الشاسعة، ويطلبونه من الأقاليم المتباعدة الواسعة، ففي مثلهم يقال:


                                                                                                                              طورا تراهم في الصعيد وتارة في أرض آمد يتتبعون من العلوم
                                                                                                                              بكل أرض كل شارد يدعون أصحاب الحديث
                                                                                                                              بهم تجملت المشاهد

                                                                                                                              قال: «فهذا أبو عبد الله البخاري» رحل بعد إحاطته بحديث شيوخ [ ص: 132 ] بلدته إلى الشام، والكوفة، والبصرة، وبلخ، وعسقلان، وحمص، ودمشق. وكتب عن ألف شيخ وثمانين شيخا، وجمع للمسلمين هذه الأحاديث التي تتبعها من الآفاق، وصحب في تطلبها الرفاق بعد الرفاق، في كتابه الجامع الصحيح، يقرؤه المحدث قراءة تحقيق وإتقان، في أشهر يسيرة الزمان، وكذلك غيره من أئمة هذا الشان، لهم أكمل منة على أهل الإسلام والإيمان والإحسان، فإنهم تعبوا في جمع الأحاديث للمتأخرين ووزعوا أوقاتهم في تحصيل ما فيه نفع للمؤمنين والمسلمين، حتى لم يبق لهم وقت لغير نسخ الحديث أو السماع.

                                                                                                                              «ففي النبلاء» في ترجمة الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم صاحب التفسير، والجرح والتعديل، والمسند الذي ألفه في ألف جزء. قال: كنا مصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة. كل نهارنا مقسم بمجالس الشيوخ، وبالليل النسخ والمقابلة. قال: فأتينا يوما، أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: إنه عليل؛ فرأينا في طريقنا «سمكة» أعجبتنا، فاشتريناها. فلما وصلنا إلى البيت حضر وقت «مجلس» فلم يمكنا إصلاحها، ومضينا إلى المجلس ولم نزل حتى مضى عليها ثلاثة أيام. وكادت تتغير. فأكلناها نيا. لم يمكن لنا فراغ أن نعطيها من يشويها.

                                                                                                                              ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم وفي مثلهم يقال:


                                                                                                                              إن علم الحديث علم رجال تركوا الابتداع للأتباع
                                                                                                                              فإذا جن ليلهم، كتبوه وإذا أصبحوا غدوا للسماع

                                                                                                                              «فأئمة الحديث جعل الله غذاءهم ولذتهم قراءة الحديث، وسماعه، [ ص: 133 ] وكتابته، ودراسته، وروايته، ودرايته، ورزقهم حفظا يبهر العقول، ويكاد أن لا يصدقه من يسمع ما حكي عنهم في ذلك، من النقول.

                                                                                                                              حفظ الله تعالى بهم السنة، وبهم يتم على عباده كل منة، قد حفظوا ألفاظ الحديث كحفظ القرآن، وأحرزوا كل لفظ منه بتحقيق وإتقان، وألفوا فيها الجوامع النافعة، والمسانيد الواسعة، ثم نقبوا عن أحوال الرواة وصفاتهم، ورحلتهم، ومواليدهم، وبلدانهم، ووفياتهم، حتى صار من عرف تراجمهم وأحوالهم كأنه شاهدهم، بل صار أعرف بأحوالهم من المشاهد لهم والمعاصر بهم، لأنه قد يخفى على من عاصرهم بعض أحوال من عاصره وشاهده، وأما من طالع تراجمهم وتلقى عن الثقات أخبارهم، فإنه يراهم قد جمعوا أحوالهم، وصفوا تعيين آثارهم، ورحلتهم ويقظتهم ومنامهم، وتتبعوا أحوالهم من كل عارف، موافق ومخالف، حتى اجتمع لمن قرأ أخبارهم ما لم يجتمع لمن شاهدهم، من الأوصاف، وهذا أمر لا ينكره إلا من حرم الإنصاف، ألا ترى أن من عرف تراجم الأئمة الستة، أهل الأمهات: من كتب أئمة التاريخ، عرف أحوالهم وأوصافهم، كأنه لاقاهم ورآهم، لقاء خبرة ورؤية مخاللة، وحصل له من الاطمئنان بأقوالهم، وتقرر في قلبه من إمامتهم في الدين، وعظم نصيحتهم للمسلمين، ما لا يحوم حوله قدح قادح، ولا جرح جارح، حتى لو جاءه من ينازعه في حفظ البخاري وتقواه، ما فت ذلك في عضد يقينه بحفظه وهداه، وكذلك غيره من الأئمة ومثلهم الرواة، فإن الله يسر أقواما جعل منهم العالية، [ ص: 134 ] وأفكارهم الصافية، مصروفة إلى تتبع أحوال رجال الأحاديث ورواته، في القديم والحديث، ثم ألفوا في الرجال ما يطلع الناظر على كل ما يقال، من جرح وتعديل. وقال وقيل؛ فذللوا للمتأخرين ما كان صعبا، وصيروا بهمتهم العالية ما كان ضيقا، واسعا رحبا، جمعوا ما كان متفرقا، ولفقوا ما كان ممزقا، قد قربوا العلوم الحديثية أتم تقريب، بإكمال وترتيب وتهذيب، فاجتمع للمتأخرين من أحوال المتقدمين، ما لم يجتمع ولم يتم للأولين، فإنها اجتمعت لهم معارف العارفين، وأقوال المتخالفين، وكل من الأئمة مازال حريصا على تقريب المعارف للمسلمين، حتى ألفوا الكتب على حروف المعجم، في الرجال والمتون، وأتوا بما لم يأت به الأولون؛ فلم يبق للمتأخرين إلا الاقتطاف لثمرات المعارف والحقائق، والارتشاف بكئوس قد أترعها لهم كل إمام عارف، إبقاء لحجة الله على العباد، وحفظا لعلوم الدين إلى يوم المعاد.

                                                                                                                              هذا آخر كلام السيد العلامة قدس سره. وله حلاوة عجيبة، وعليه طلاوة غريبة، وإنما أطلنا الموضع بذكره لذة منه، ولا حرج في ذلك، فالشيء بالشيء يذكر. ولعلك لا تجد مثل هذه الفائدة في غير هذا الكتاب.




                                                                                                                              الخدمات العلمية