الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا " وفي لفظ : " قالوا : من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل هؤلاء الآيات " .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا جابر ما لي أراك منكسرا ؟ فقلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا ، فقال : ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك ؟ قلت : بلى . قال : ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي أعطك ، قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ، قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي ربي فأبلغ من ورائي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع ، وأنزل الله تعالى الآية لهما ، والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد ، وفي رواية ابن المنذر عن إسحاق بن أبي طلحة قال : حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله - إلى أن قال - وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا : بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ، ثم نسخت فرفعت بعدما قرأناه زمانا ، فأنزل الله تعالى : ولا تحسبن إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هنا قيل : إن الآية نزلت فيهم ، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك ، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر ، وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط ، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم ، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر ، بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون ، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : من المنافقين الذين قالوا : ( لو أطاعونا وقعدوا ) وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به ، وقرئ ( يحسبن ) بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب ، وقيل : إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا .

                                                                                                                                                                                                                                      واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا ، ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة ، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى ، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا [ ص: 122 ] على الصحيح بل اقتصارا ، و (ما) هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش ، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا ، أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا ، والمراد لا يحسبن أنفسهم ، واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا ، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن ليس هذا منها ، ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها ، لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز ، لأنه مقدم معنى ، وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز ، وقد ظن السيرافي وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين ، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض ، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة ، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يتسلوا بذلك ، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم ، لكن لا في جميع أوقاتهم ، بل عند ابتداء القتل ، إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ، ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه ، قاله شيخ الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك ، وإن قل ، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما ، وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم ، وقرئ (ولا تحسبن) بكسر السين ، وقرأ ابن عامر (قتلوا) بالتشديد لكثرة المقتولين .

                                                                                                                                                                                                                                      بل أحياء أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك ، وقرئ بالنصب ، وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل احسبهم أحياء ، ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان ، وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه ، على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان : إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم ، نعم قال السفاقسي : يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم ، لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله ، وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم ، لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف ، وإن كانت دلالة اللفظ أحسن ، وقال العلامة الثاني : لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك ، والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى : فاعتبروا يا أولي الأبصار أمرا بالقياس وتحصيل الظن ، وقال بعضهم : المراد اليقين ، ويقدر أحسبهم للمشاكلة ، ولا يخفى أنه تعسف ؛ لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد .

                                                                                                                                                                                                                                      عند ربهم في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في (أحياء) . وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده ، و(عند) هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول : هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام ، بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية ، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق ، أي أن حياتهم متحققة لا شبهة فيها ، ولا يخفى أن المقام مقام مدح ، فتفسير العندية بالقرب أنسب به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر ، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      يرزقون صفة لأحياء ، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف ، وفيه تأكيد لكونهم أحياء ، وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه ، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى ، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة ، بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ، ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء ، وخبر القناديل لا ينور كلامه ، ولا يزيل ظلامه . [ ص: 123 ] فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية