الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال : ( إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن المراد : إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن هذا إشارة إلى كونه متقيا من جميع المعاصي ؛ لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة ، واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق ، فقالوا : دلت الآية على أن من كان موصوفا بهذه الخشية فله الأجر العظيم ، فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية ، فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل ، أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال :

                                                                                                                                                                                                                                            ( وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور )

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قال ابن عباس : كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد ، فأنزل الله هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحد في علمه تعالى بهذا ، فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا [ ص: 59 ] فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى ، وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالما بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالما بهذه الأشياء فقال :

                                                                                                                                                                                                                                            ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن معنى الآية أن من خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه ، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضا مقررة بالدلائل العقلية ؛ وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك الشيء ، فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصدا إليه ، وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالما بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالما بكميته ؛ لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره ، والقصد مسبوق بالعلم ، فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار ، وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه ، وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن من خلق شيئا فإنه لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته ، وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : قالوا : لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها ، لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها ، بيان الملازمة من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : التمسك بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلا ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضا ممكن ، فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص ، لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع ، وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعا للممكن المحدث من غير مرجح ؛ لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالما بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص ، فثبت أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها ، وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات ، فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر ألبتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكونا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها ، وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي ؟ ومعلوم أن ذلك غير معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن عند أبي علي ، وأبي هاشم ، الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز ، ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق ، فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول : إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده : ( ألا يعلم من خلق ) وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقا لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي الصدور والقلوب ، فإنه لو لم يكن خالقا لها لم يكن قوله : ( ألا يعلم من خلق ) مقتضيا كونه تعالى عالما بتلك الأشياء ، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب ، [ ص: 60 ] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد : ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء ؟ قلنا : إنه لا يلزم من كونه خالقا لغير هذه الأشياء كونه عالما بها ؛ لأن من يكون فاعلا لشيء لا يجب أن يكون عالما بشيء آخر ، نعم يلزم من كونه خالقا لها كونه عالما بها ؛ لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالما به .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الآية تحتمل ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يكون ( من خلق ) في محل الرفع والمنصوب يكون مضمرا ، والتقدير : ألا يعلم من خلق مخلوقه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن يكون ( من خلق ) في محل النصب ويكون المرفوع مضمرا ، والتقدير ألا يعلم الله من خلق ، والاحتمال الأول أولى ؛ لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالما بذات من هو مخلوقه ، ولا يقتضي كونه عالما بأحوال من هو مخلوقه ، والمقصود من الآية هذا لا الأول .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن تكون ( من ) في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله : ( والسماء وما بناها ) ( الشمس : 5 ) وعلى هذا التقدير تكون ( ما ) إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وهو اللطيف الخبير ) فاعلم أنهم اختلفوا في ( اللطيف ) فقال بعضهم : المراد العالم ، وقال آخرون : بل المراد من يكون فاعلا للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لطف الله بعباده عجيب ، ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم ، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكرارا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية