الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              5007 (23) ومن سورة الدخان

                                                                                              [ 2906 ] عن مسروق قال : جاء إلى عبد الله رجل فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال : يأتي الناس يوم القيامة دخان فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام ، فقال عبد الله : من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم ، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا أن قريشا لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، وحتى أكلوا العظام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل - في رواية : أبو سفيان ، فقال : يا محمد إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم - وفي الرواية الأولى : فقال : يا رسول الله استغفر الله لمضر ; فإنهم قد هلكوا ، فقال : لمضر ؟ إنك لجريء ، قال : فدعا الله لهم فأنزل الله عز وجل : إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] قال : فمطروا ، فلما أصابتهم الرفاهية قال : عادوا إلى ما كانوا عليه ، قال : فأنزل الله عز وجل : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ، يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون قال : يعني يوم بدر .

                                                                                              وفي رواية : قال : أفيكشف عذاب الآخرة ؟ قال : وقد مضت آية الدخان والبطشة ، واللزام وآية الروم . في أخرى : والقمر .

                                                                                              رواه البخاري (4821) ، ومسلم (2798) (39 - 41) ، والترمذي (3251) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (23) ومن سورة الدخان

                                                                                              قد تقدم ذكر من خالف ابن مسعود في تفسيره للدخان المذكور في هذه الآية فيما تقدم ، وما أنكره يروى فيه حديث مرفوع من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - على نحو ما ذكر ، وزاد : " فيدخل الدخان جوف الكافر والمنافق حتى ينتفخ " واستعصت : بمعنى : عصت بترك إجابة النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                              و (قوله : تصعبت عليه ) أي : أبت الدخول في الإسلام .

                                                                                              وسبع يوسف هي المذكورة في قوله تعالى : ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [يوسف : 48 ] وقد تقدم أن الجدب والقحط يقال عليه : سنة ، ويجمع : سنين .

                                                                                              [ ص: 396 ] و (قوله : حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينها وبينه كهيئة الدخان من الجهد ) لا شك في أن تسمية هذا دخانا تجوز ، وحقيقة الدخان ما ذكر في حديث أبي سعيد ، والذي حمل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ الدخان :12 ] وقوله : إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون [ الدخان : 15 ] ولذلك قال : أفيكشف عذاب الآخرة ؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل ; لأن حديث أبي سعيد إنما دل على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة ، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجال ويأجوج ومأجوج ، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت ، فلا معارضة بين الآية والحديث ، والشأن في صحة الحديث .

                                                                                              و (قوله : استغفر الله لمضر ) كذا صح في كتاب مسلم من الاستغفار ، ووقع في كتاب البخاري : استسق الله لمضر ، من الاستسقاء ، وهو مناسب للحال التي [ ص: 397 ] كانوا عليها من القحط ، غير أن الذي يبعده إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على القائل بقوله : لمضر ; فإن طلب السقيا لهم لا ينكر ، وإنما الذي ينكر طلب الاستغفار لهم . وقد فسر البطشة بأنها يوم بدر . وأما اللزام : فهو المذكور بقوله تعالى : فسوف يكون لزاما [ الفرقان : 77 ] وقد اختلف فيه ، فقيل : هو العذاب الدائم ، وأنشدوا :


                                                                                              فإما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما

                                                                                              وقال آخر :


                                                                                              ولم أجزع من الموت اللزام

                                                                                              وقال أبي : هو القتل بالسيف يوم بدر ، وإليه نحا ابن مسعود ، وهو قول أكثر الناس ، وعلى هذا فتكون البطشة واللزام شيئا واحدا . وقال القرطبي وأبو عبيدة : هو الهلاك والموت ، وأما الروم ، فقد روى الترمذي من حديث نيار بن مكرم الأسلمي قال : لما نزلت : الم غلبت الروم الآيتين [ الروم : 1 - 2 ] ، فكانت [ ص: 398 ] فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس ; لأنهم وإياهم أهل كتاب ، وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم ; لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ، ولما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة بالآية ، فقال كبراء المشركين : ألا نراهنك على ذلك ؟ قال : بلى . وذلك قبل تحريم الرهان ، فارتهن أبو بكر والمشركون ، وأقبضوا الرهان ، وقالوا لأبي بكر : كم تجعل البضع ؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع ، قسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه ، فسموا بينهم ست سنين ، فمضت الست سنين قبل أن يظهروا ، فأخذ المشركون رهن أبي بكر ، ولما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس ، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين ، لأن الله تعالى قال : في بضع سنين قال : وأسلم بعد ذلك ناس كثير . قال : هذا حديث حسن صحيح ، وسيأتي القول في انشقاق القمر في سورته .




                                                                                              الخدمات العلمية