الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان معنى الأخوة في الله وتمييزها من الأخوة في الدنيا .

اعلم أن الحب في الله والبغض في الله غامض وينكشف الغطاء عنه بما نذكره ، وهو أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب أو في المدرسة أو في السوق أو على باب السلطان أو في الأسفار وإلى ما ينشأ اختيارا ويقصد وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة ، إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية ولا ، ترغيب إلا فيها .

والصحبة عبارة عن المجالسة والمجاورة .

وهذه الأمور لا يقصد الإنسان بها غيره إلا إذا أحبه ، فإن غير المحبوب يجتنب ويباعد ولا تقصد مخالطته ، والذي يحب فإما أن يحب لذاته لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه ، وإما أن يحب للتوصل به إلى مقصود ، وذلك المقصود إما أن يكون مقصورا على الدنيا وحظوظها ، وإما أن يكون متعلقا بالآخرة ، وإما أن يكون متعلقا بالله تعالى ، فهذه أربعة أقسام .

أما ؛ القسم الأول وهو حبك الإنسان لذاته فذلك ممكن ، وهو أن يكون في ذاته محبوبا عندك على معنى أنك تلتذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب .

واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع ثم ذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة ، أعني حسن الخلقة وإما أن يكون هو الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الأخلاق ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة ويتبع كمال العقل غزارة العلم ، وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم والعقل المستقيم وكل مستحسن فمستلذ به ومحبوب ، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خلق وخلق ولكن لمناسبة توجب الألفة والموافقة ، فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع .

التالي السابق


(بيان معنى الأخوة في الله) كيف تكون، (وتمييزها عن الأخوة في الدنيا، اعلم أن الحب في الله والبغض في الله) أمر (غامض) خفي، (وينكشف الغطاء عنه بما نذكره، وهو أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق) لا بالقصد والاختيار، (كالصحبة بسبب الجوار) أي: المجاورة في السكنى، (وبسبب الاجتماع في المكتب) محل تعليم القرآن، (أو في المدرسة) محل تحصيل العلم، (أو في السوق) محل التجارة، (أو على باب السلطان) محل قضاء الحاجات، (أو في الأسفار) ، فكل هذه مصاحبات اتفاقية، (وإلى ما ينشأ اختيارا) من نفسه، (ويقصد وهو الذي أردنا بيانه) هنا، (إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة، إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية، فلا ترغيب إلا فيها) ، وما وقعت من غير اختياره فلا ينتظر بها ثواب ولا رغبة .

( والصحبة عبارة عن المخالطة والمجالسة والمجاورة ) مع الملازمة في كل منها، ولا فرق بين أن تكون بالبدن وهو الأصل، أو بالعناية والهمة، ولا تطلق عرفا إلا لمن كثرت منه الملازمة والمصاحبة أبلغ من الاجتماع; لأنها تقتضي طول لبثه، فكل مصاحبة اجتماع ولا عكس، (وهذه الأمور لا يقصد الإنسان بها غيره إلا إذا أحبه، فإن غير المحبوب يجتنب) عنه، (ويباعد إذ لا يقصد مخالطته، والذي يحب إما أن يحب لذاته لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه، وإما أن يحب للتوصل به إلى المقصود، وذلك المقصود إما أن يكون مقصورا على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكون متعلقا بالآخرة، وإما أن يكون متعلقا بالله، فهذه أربعة أقسام; القسم الأول وهو حب الإنسان لذاته ) لا لأمر سواه، (فذلك ممكن، وهو أن يكون في ذاته محبوبا عندك على معنى أنك تتلذذ برؤيته) ومشاهدته، (ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له) في سائر [ ص: 181 ] حركاته وسكناته، (فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله) ، ولو من وجه واحد، (وكل لذيذ محبوب) كما أن كل محبوب لذيذ، (واللذة تتبع الاستحسان) ، أي: إذا استحسن شيئا التذ به، (والاستحسان يتبع المناسبة) المعنوية، (والموافقة بين الطباع) ، والمناسبة هي الملاءمة لأفعال العقلاء، والطباع جمع طبع وهي الجبلة التي خلق عليها الإنسان، (وذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة، أعني حسن الخلقة) ، وحسنها بتمام التركيب واعتدال المزاج ظاهرا أو باطنا، (وإما أن يكون في الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الخلق) ، وهي هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من غير احتياج إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجملية عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا، ( ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة) ، كما أنه يتبع سيئ الأخلاق سيئ الأفعال، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء، ولا يبذل إما لفقد مال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل، وهو يبذل لباعث نحو حياء ورياء، (ويتبع كمال العقل غزارة العلم، وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم) عن وصمة النقص، (والعقل المستقيم) بميزان الشرع، (وكل مستحسن يستلذ به ومحبوب، بل في ائتلاف القلوب) بعضها مع بعض، (أمر أغمض من هذا) ، وأدق، (فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة صورة) في الظاهر، ولا (حسن في خلق) ظاهر، (و) لا (خلق) معنوي، (ولكن بمناسبة باطنة توجب الألفة والموافقة، فإن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع) ، وقد اشتهر على الألسنة هذا القول: شبيه الشيء منجذب إليه، ونظموه في مقاطيع ما بين مستحسن ومستقبح، فمن الأخير ما أنشدني بعضهم:


رأيت النخل يطلع كل قحف وذاك الليف ملتف عليه فقلت تعجبوا من صنع ربي
شبيه الشيء منجذب إليه



وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما تزعمه العامة، نعم معناه صحيح لقوله: "الأرواح جنود مجندة" ، كما سيأتي، وروى الديلمي من حديث أنس : "إن لله ملكا موكلا بتأليف الأشكال" ، وهو ضعيف .

وأخرج الدينوري في تاسع المجالسة من طريق ابن أبي غزية الأنصاري عن الشعبي قال: إن لله ملكا موكلا بجمع الأشكال بعضها إلى بعض .




الخدمات العلمية