الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الإجارة الفاسدة قال : ( الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع ) ; لأنه بمنزلته ، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ ( والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى ) وقال زفر والشافعي : يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع الأعيان . [ ص: 92 ] ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل بالعقد لحاجة الناس فيكتفى بالضرورة في الصحيح منها ، إلا أن الفاسد تبع له ، ويعتبر ما يجعل بدلا في الصحيح عادة ، لكنهما إذا اتفقا على مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة ، وإذا نقص أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية ، بخلاف البيع ; لأن العين متقومة في نفسها وهي الموجب الأصلي ، فإن [ ص: 93 ] صحت التسمية انتقل عنه وإلا فلا .

التالي السابق


( باب الإجارة الفاسدة ) . تأخير الإجارة الفاسدة عن صحيحها لا يحتاج إلى معذرة ; لوقوعها في محلها كما لا يخفى ( قوله : والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى ) قال جمهور الشراح : أي الواجب فيها هو الأقل من أجر المثل ، ومن المسمى ، وقالوا : هذا الحكم [ ص: 92 ] إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد لا باعتبار جهالة المسمى ولا باعتبار عدم التسمية ; لأنه لو كان باعتبار واحد منهما يجب الأجر بالغا ما بلغ كما صرح به في الذخيرة والمغني وفتاوى قاضي خان . وقال صاحب العناية : والواجب في الإجارة التي فسدت بالشروط الأقل من أجر المثل والمسمى ، وقال : إنما جعلت اللام في قوله في الإجارة الفاسدة للعهد كما رأيت بسياق الكلام ودفعا لما قيل الأقل من الأجر ، ومن المسمى إنما يجب إذا فسدت بشرط ، أما إذا فسدت لجهالة المسمى أو لعدم التسمية وجب أجر المثل بالغا ما بلغ ، نقله في النهاية عن الذخيرة والمغني وفتاوى قاضي خان . ا هـ كلامه .

أقول : فيه شيء . أما أولا فلأن قوله والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل إلخ لفظ القدوري في مختصره ، ولا دلالة لسياق كلامه على كون اللام في قوله المذكور للعهد ; لأن قوله الإجارة تفسد بالشروط كما يفسد البيع لم يذكر في مختصره قبيل قوله المذكور ، بل ذكر قبل مقدار الورقتين ، ووقع بينهما مسائل كثيرة من مسائل الإجارة الصحيحة والفاسدة بحيث لم يبق بينهما ارتباط . فلا معنى ; لأن يجعل سياق الكلام علة لجعل اللام في قوله المذكور للعهد . نعم قد ذكر ذلك في البداية والهداية قبيل قوله المذكور كما ترى لكن الكلام في تصحيح كلام القدوري .

وأما ثانيا فلأنه لو كان اللام في القول المذكور للعهد وكان المعنى ما ذكره لزم أن يكون المذكور في باب الإجارة الفاسدة حكم نوع مخصوص فقط من الإجارة الفاسدة وهو ما فسد بالشروط ، وأن يكون حكم باقي [ ص: 93 ] أنواعها ، وهي ما فسد لجهالة المسمى ، وما فسد لعدم التسمية بالإجماع ، وما فسد بالشيوع عند أبي حنيفة متروك الذكر بالكلية غير مبين أصلا لا في مختصر القدوري ولا في البداية ولا في الهداية ولا في عامة المعتبرات ، وهذا مما لا تقبله الفطرة السليمة . وأما ثالثا فلأنه إن اندفع بجعل اللام في القول المذكور للعهد ما قيل على الوجه الذي ذكره ، يرد عليه أن يقال من الإجارة الفاسدة بالشروط ما لا يجب فيه الأقل من أجر المثل ، ومن المسمى بل يجب فيه أجر المثل بالغا ما بلغ ، كما إذا استأجر دارا أو حانوتا سنة بمائة درهم على أن يرمها المستأجر فإن الواجب على المستأجر هناك أجر المثل بالغا ما بلغ ، صرح به في فتاوى قاضي خان وغيرها . وذكر في النهاية أيضا نقلا عن فتاوى قاضي خان إلى غير ذلك من النظائر التي صرح بها في المعتبرات فينتقض بمثل ذلك قوله : الواجب في الإجارة التي فسدت بالشروط الأقل من أجر المثل والمسمى . ثم أقول : الحق عندي أن اللام في القول المذكور ليس للعهد كما زعمه صاحب العناية ، بل هو للاستغراق أو الجنس ، وأنه لا حاجة إلى تقييد الحكم المذكور بأنه فيما إذا كان فساد الإجارة بسبب شرط فاسد لا باعتبار جهالة المسمى ولا باعتبار عدم التسمية كما ذهب إليه جمهور الشراح ، وذلك ; لأن معنى الكلام أن الواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا يجاوز به المسمى إذا كان هناك مسمى معلوم ; لأن مجاوزة المسمى إنما تتصور فيه . فإنه إذا لم يكن هناك أجر مسمى أو كان المسمى مجهولا لا يمكن أن يجاوز المسمى بشيء أصلا للقطع بأن المجاوزة تقتضي الحد المعلوم فيلغو أن يقال هناك : لا يجاوز المسمى بأجر المثل .

فصار ملخص المعنى أن الواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل ، إلا أن يكون هناك مسمى معلوم فحينئذ لا يجاوز به المسمى بل يجب الأقل منهما ، فعلم منه حكم الإجارة الفاسدة مطلقا وهو وجوب أجر المثل بالغا ما بلغ إن لم يكن هناك مسمى معلوم ، ووجوب الأقل من أجر المثل ، ومن المسمى إن كان هناك مسمى معلوم . والحاصل أن الشراح جعلوا وجوب الأقل من أجر المثل ، ومن المسمى معنى مجموع الكلام المذكور فوقعوا فيما وقعوا ، وإذا جعل ذلك معنى آخر الكلام المذكور وهو قوله : لا يجاوز المسمى وأبقى أوله على ظاهره وهو وجوب عين أجر المثل كما فعلناه كان حكم الإجارة الفاسدة مطلقا مستوفى بالكلية في الكتاب ، ولا يلزم شيء من المحذورات ، فتأمل وكن الحاكم الفيصل .




الخدمات العلمية