الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان البغض في الله .

اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب وإنما يترشح عند الغلبة ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة ، وفي المخالفة والموافقة ، فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة ولذلك قال الله تعالى هل واليت في وليا وهل ، عاديت في عدوا ، كما نقلناه وهذا واضح في حق من لم يظهر لك إلا طاعاته تقدر على أن تحبه أو لم يظهر لك إلا فسقه وفجوره وأخلاقه المسيئة فتقدر على أن تبغضه وإنما المشكل إذا اختلطت الطاعات بالمعاصي فإنك تقول : كيف أجمع بين البغض والمحبة ، وهما متناقضان ، وكذلك تتناقض ثمرتهما من الموافقة والمخالفة والموالاة والمعاداة وأقول ، ذلك غير متناقض في حق الله تعالى كما لا يتناقض في الحظوظ البشرية ، فإنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال يحب بعضها ويكره بعضها فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه فمن زوجة حسناء فاجرة أو ولد ذكي خدوم ولكنه فاسق فإنه يحبه ، من وجه ويبغضه من وجه ويكون معه على حالة بين حالتين إذ لو فرض له ثلاثة أولاد ، أحدهم ذكي بار والآخر بليد عاق والآخر بليد بار ، أو ذكي عاق ، فإنه يصادف نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم ، فكذلك ينبغي أن تكون حالك بالإضافة إلى من غلب عليه الفجور ، ومن غلبت عليه الطاعة ومن اجتمع فيه كلاهما متفاوتة على ثلاث مراتب ، وذلك بأن تعطى كل صفة حظها من البغض والحب والإعراض والإقبال والصحبة والقطيعة وسائر الأفعال الصادرة منه .

، فإن قلت: كل مسلم فإسلامه طاعة منه فكيف أبغضه مع الإسلام ؟ فأقول : تحبه لإسلامه وتبغضه لمعصيته ، وتكون معه على حالة لو قستها بحال كافر أو فاجر أدركت تفرقة بينهما . وتلك التفرقة حب للإسلام وقضاء لحقه وقدر الجناية على حق الله والطاعة له كالجناية على حقك والطاعة لك .

فمن وافقك على غرض وخالفك في آخر فكن معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال وبين الإقبال والإعراض وبين التودد إليه والتوحش عنه ولا ؛ تبالغ في إكرامه مبالغتك في إكرام من يوافقك على جميع أغراضك ولا تبالغ في إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك .

ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية وتارة إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة ، فهكذا ينبغي أن يكون فيمن يطيع الله تعالى ويعصيه ويتعرض لرضاه مرة ولسخطه أخرى .

التالي السابق


( بيان البغض في الله تعالى

اعلم أن من يحب في الله لا بد وأن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانا) لا تحبه إلا (بأنه مطيع لله) تعالى (ومحبوب عند الله) تعالى (فإن) اتفق أنه (عصاه) يوما (فلا بد وأن تبغضه لأنه عاص لله) تعالى (وممقوت عند الله) تعالى لا أنه إن عصاه مرة لا يقال في حقه أنه عاص، كما ذكروا في قوله تعالى: وعصى آدم ربه فغوى ، إذ لا يكون عاصيا وممقوتا إلا إذا دام ذلك الفعل منه، فكان الأولى للمصنف أن يقول: لأنه عصى الله تعالى، فصار بذلك ممقوتا عنده، ولكن هذه الدقيقة قد لا يلتفت إليها (ومن أحب لسبب) من الأسباب (فبالضرورة يبغض لضده) إذا طرأ عليه (وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر) ، ولا ينفكان غالبا، (وهو مطرد في الحب والبغض في العادات) أي: في مجاريها، (ولكن كل واحد من الحب والبغض دفين) أي: مكتوم (في القلب) لا يطلع عليه (وإنما يترشح عند الغلبة) والقوة، (ويترشح) أيضا (بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة، وفي المخالفة والموافقة، فإذا ظهر في العقل سمي موالاة ومعاداة ولذلك قال) الله (تعالى) لبعض أنبيائه (هل واليت في واليا، أو عاديت في عدوا، كما نقلناه) قريبا، (وهو واضح في حق من لم يظهر لك إلا طاعاته) وحسن عبادته في مراضي الله تعالى، (إذ تقدر على أن تحبه) لذلك، (أو لم يظهر لك إلا فسقه وفجوره وأخلاقه السيئة فتقدر على أن تبغضه) ، لذلك، (وإنما المشكل إذا اختلطت الطاعات بالمعاصي) واشتبه عليك الحال، (فإنك تقول: كيف أجمع بين البغض والمحبة، وهما متناقضان، وكذلك تتناقض ثمراتهما من الموافقة والمخالفة والموالاة والمعاداة، فنقول ذلك غير متناقض في حق الله) تعالى (كما لا يتناقض في الحظوظ البشرية، فإنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال) متباينة (تحب) منها بعضها، (وتكره) منها (بعضها فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه) آخر، (فمن له زوجة حسناء) جميلة الصورة إلا أنها (فاجرة) لا تمنع يد لامس، (أو ولد ذكي) عاقل (خدوم) كثير الخدمة، (ولكنه فاسق، فإنك تحبهما من وجه) جمالها وخدمته، (وتبغضهما من وجه) فجورها وفسقه، (وتكون معهما على حالة بين حالتين) من حب وبغض (إذ لو فرض له ثلاثة أولاد، أحدهم ذكي بار) بوالديه، (والآخر بليد) (عاق) لوالديه، (والآخر بليد بار، أو ذكي عاق، فإنه يصادف نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم، فكذلك ينبغي أن يكون حالك بالإضافة إلى من غلب عليه الفجور، ومن غلبت عليه [ ص: 192 ] الطاعة ومن اجتمع عليه كلاهما) أي: الفجور والطاعة (متفاوتة على ثلاثة مراتب متفاوتة، وذلك أن يعطي كل صفة حظها من الحب والبغض والإعراض والإقبال والصحبة والقطيعة وسائر الأفعال الصادرة منهم، فإن قلت: فكل مسلم فإسلامه طاعة منه) لأنه منقاد لطاعة الله تعالى بإسلامه (فكيف أبغضه مع) وجود (الإسلام؟ فأقول: تحبه لإسلامه وتبغضه لمعصيته، وتكون معه على حاله لو قستها بحال كافر أو فاجر أدركت فرقه بينهما .

وتلك التفرقة حب للإسلام وقضاء لحقه وقدر الجناية على حق الله) تعالى (والطاعة له كالجناية على حقك والطاعة لك؛ فمن وافقك على غرض وخالفك في آخر فتكون معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال) وفي نسخة: والانبساط (وبين الإقبال والإعراض وبين التودد إليه والتوحش منه؛ فلا تبالغ في إكرام من يوافقك على جميع أغراضك ولا تبالغ في إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك، ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية) وفي نسخة: المخالفة، وفي نسخة أخرى زيادة وظلم النفس .

(وتارة) يكون ميله (إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة، فهكذا ينبغي أن يكون فيمن يطيع الله ويعصيه ويتعرض لرضاه مرة ولسخطه) مرة (أخرى) .




الخدمات العلمية