الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله

                                                          * * *

                                                          يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان ، قال: كان أهل بيت منا، يقال لهم بنو أبيرق، ثلاثة: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير منافقا، وقد كان طعام وسلاح لعمي رفاعة ، كان قد ابتاعه فسرق منه، فقال: يا ابن أخي، قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا -أي غرفتنا- وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتحسسنا وسألنا، فقيل لنا: إن بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نراهم إلا على بعض طعامكم. . ويسترسل قتادة في القصة، فيذكر أن بني أبيرق اتهموا رجلا له صلاح وإسلام، وهو لبيد بن سهل، فغضب وهدد بالسيف ... فذهب قتادة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "سأنظر في ذلك"، فلما سمع بنو أبيرق، أتوا رجلا يقال له أسيد بن عروة ، فكلموه في ذلك، فاجتمع بأناس، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، ويقول قتادة : فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة"!. فرجعت فأخبرت عمي، فلم يلبث أن نزل القرآن: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما وقد كشف أمر بشير فلحق بالمشركين مرتدا!. [ ص: 1839 ] وسواء أصح ذلك الخبر سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية لها صفة العموم، وتفسر بعمومها، لا بخصوص سببها، ومعنى النص الكريم على ذلك: إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم المكتوب المسجل ليحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بما توجبه نصوصه، وبما يريه الله تعالى وينير قلبه لإدراك الحق.

                                                          وهنا ثلاث إشارات بيانية:

                                                          الأولى" أن الله تعالى عبر عن القرآن بـ"الكتاب" للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.

                                                          الثانية: كلمة "بالحق"، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية، فهو مع الحق، وبالحق، وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل.

                                                          الثالثة: قوله تعالى: بما أراك الله فإنها مقابلة لقوله تعالى: إنا أنـزلنا إليك الكتاب وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة بما أراك الله لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لا بد من أمرين: أحدهما: قانون عادل هو الحق من كل نواحيه، وهو هنا الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والثاني: أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله، وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى: بما أراك الله

                                                          ولكن نور الحق لا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة، ولا منحرفة، وهذا هو ما نهى الله عنه نبيه، والنهي لعموم أمته، ولذا قال تعالى:

                                                          ولا تكن للخائنين خصيما تبادر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون على الحق، فانحاز فكره ككل البشر، فالله سبحانه وتعالى نبهه، تعليما لأمته، ولكل قاض من بعده، إلى أنه لا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين، فعسى أن يكون هو الخائن، وغيره هو البريء، ولا بد أن يسمع البينات، ويجعلها هي الحاكمة. والخصيم بمعنى المخاصم، كالجليس بمعنى [ ص: 1840 ] المجالس، والمعنى على هذا: ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين، بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.

                                                          وسمي هؤلاء خائنون; لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد.

                                                          وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها.

                                                          وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته; لأنه لا يدري: لعله أصاب الباطل! والعصمة لله تعالى وحده، ولأنبيائه، ولذا قال سبحانه:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية