الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الحق الثالث .

في : اللسان بالسكوت مرة وبالنطق أخرى .

أما السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه ولا يناقشه وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده ولا يسأله عنه فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشف شيئا منها ولو بعد القطيعة والوحشة فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه فإن الذي سبك من بلغك .

وقال أنس كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدا بشيء يكرهه .

والتأذي يحصل أولا من المبلغ ثم من القائل نعم ؛ لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور به أولا يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل وإخفاء ذلك من الحسد .

وبالجملة فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلا إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت فإذ ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر .

التالي السابق


(الحق الثالث:

على اللسان بالسكوت مرة وبالنطق مرة أخرى أما السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه) ومساويه (في حضرته) أي: حضوره (وغيبته يتجاهل عنها) أي: يتكلف الجهل (ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به فلا يماريه) أي: لا يخاصمه (ولا يناقشه) أي: لا يستقصيه في الحساب (وأن يسكت عن التجسس عليه) وهو تجسس الأخبار والتفحص عن بواطنها (و) عن (السؤال عما يكتمه من أحواله) الباطنة (وإذا رآه في حاجة) هو مشغول بها (أو) ماشيا (في طريق ولم يفاتحه بذكر غرضه) ابتداء من (و) ذكر (مصدره ومورده) أي: صدوره ووروده (فلا يسأله عنه فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه) وفي القوت: وليتق أن يعاشر أخاه بخمس خصال؛ فليس من الأدب أو المروءة، أولها: أن لا يلزمه بما يكره مما يشقق عليه، والثانية: أن لا يسمع فيه بلاغة ولا يصرف فيه مقالة، والثالثة: أن لا يكثر مسألته من أين تجيء وإلى أين تذهب؟ والرابعة: أن لا يتجسس عليه، والخامسة: أن لا يتحسس عنه، فقد روينا كراهة هذه الخمس وفي سير السلف، وقد قال محمد بن سيرين: لا تكرم أخاك بما يشق عليك، وقال مجاهد: إذا رأيت أخاك في طريق فلا تسأل من أين جئت وإلى أين تذهب؛ فلعله يكره أن يصدقك في ذلك أو يكذبك فتكون قد حملته على الكذب (وأن يسكت عن الأسرار التي يبثها إليه) أي: ينشرها (ولا يبثها إلى غيره البتة) أي: لا يفشها (ولا إلى أخص أصدقائه) وأصدق أحبابه (ولا يكشف شيئا منها ولو بعد القطيعة) والمجافاة (والوحشة) والنفرة هذا في الأمور التي لو فرض أنه اطلع على ذلك لتكدر خاطره (فإن ذلك) أي: إفشاء السر إلى الغير (من لؤم الطبع وخبث الباطن) وهو دليل عليهما (وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده) فلا يتكلم فيهم ما يسوؤهم وكثير يتقرب إلى صاحبه بذلك وهو خطأ تنشأ عنه المفاسد، ولو فرض فيه مصالح فلا توازي مفاسد ودرؤها أولى (وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه فإن الذي يسبك من بلغك) ومنه قولهم: ما سبك إلا من بلغك، وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه- (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يواجه أحدا بما يكرهه) أي: لا يشافهه به لئلا يشوش عليه؛ فإنه كان واسع الصدر جدا غزير الحياء .

قال العراقي: رواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي في اليوم والليلة بسند ضعيف. انتهى .

وقلت: رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ولفظهم جميعا: "كان لا يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه" وسببه أن رجلا دخل وبه أثر صفرة فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه (والتأذي يحصل أولا من المبلغ) له ذلك (ثم من القائل) وهي مرتبة ثانية (نعم؛ لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه) والمدح فيه (فإن السرور يخص من المبلغ) أولا (ثم من القائل) ثانيا (وإخفاء ذلكم من) داء (الحسد) وهو مذموم (وبالجملة فيسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلا) قليلا وكثيرا (إلا إذا وجب عليه النطق بأمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة) شرعية (في السكوت فإن ذلك لا يبالى بكراهته) ولو تغير عليه (فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنه إساءة) له (في الظاهر) ومنهم من قال: يكتبه في لوح فيعرض عليه لعلة يعتبر فيرتدع عنه فهذا هو أولى الأشياء وأبعد من غرور المواجهة .




الخدمات العلمية