الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا .

يجوز أن يكون جملة " وابتلوا " معطوفة على جملة ولا تؤتوا السفهاء أموالكم لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي . فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتجه أن يقال : لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأول إلى التعبير بآخر أخص وهو اليتامى ، ويجاب بأن العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأن العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلا يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعم من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء ؟ ويجاب بأن الإخبار لا يكون إلا عند الوقت الذي يرجى [ ص: 238 ] فيه تغيير الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أما من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنة لانتقال حاله وابتلائه .

ويجوز أن تكون جملة وابتلوا معطوفة على جملة وآتوا اليتامى أموالهم لبيان كيفية الإيتاء ومقدماته ، وعليه فالإظهار في قوله اليتامى لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبر بالضمير .

والابتلاء : الاختبار ، وحتى ابتدائية ، وهي مفيدة للغاية ، لأن إفادتها الغاية بالوضع ، وكونها ابتدائية أو جارة استعمالات بحسب مدخولها ، كما تقدم عند قوله تعالى حتى إذا فشلتم في سورة آل عمران . و " إذا " ظرف مضمن معنى الشرط ، وجمهور النحاة على أن حتى الداخلة على إذا ابتدائية لا جارة .

والمعنى : ابتلوا اليتامى حتى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء ، وحيث علم أن الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرر أن مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره ، وهو تسليم الأموال . وسيصرح بذلك في جواب الشرط الثاني .

والابتلاء هنا : هو اختبار تصرف اليتيم في المال باتفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرف فيه من غير إجحاف ، ويرد النظر إليه في نفقة الدار شهرا كاملا ، وإن كانت بنتا يفوض إليها ما يفوض لربة المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت . وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين . قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي . وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كلية حفظ الدين .

وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عند [ ص: 239 ] البلوغ ، ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح ، والغالب في بلوغ البنت أنه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلفت عن وقت مظنتها فقال الجمهور : يستدل بالسن الذي لا يتخلف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث . وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجارية سبع عشرة سنة ، وروى غير ابن القاسم عن مالك أنه سبع عشرة سنة . والمشهور عن أبي حنيفة : أنه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة . قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ابن عمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسكوا بحديث ابن عمر أنه عرضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ، وعرضه يوم أحد وهو ابن خمس عشرة فأجازه . ولا حجة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبيء - صلى الله عليه وسلم - وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السن في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة . وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجب من ترك هؤلاء الأيمة تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجب منه أشد من عجبه منهم ، فإن قضية ابن عمر قضية عين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان معلوم ، واستدل الشافعية بما روي أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه . وأقيمت عليه الحدود . وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به .

ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن المواز عن مالك ، ولعل وجهه أن الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأن عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ . وعبر عن استكمال [ ص: 240 ] قوة النماء الطبيعي ب بلغوا النكاح ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأن ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخر بعده ، فلا يشكل بأن الناس قد يزوجون بناتهم قبل سن البلوغ ، وأبناءهم أيضا في بعض الأحوال ، لأن ذلك تعجل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغا من الأبناء أو البنات .

وقوله فإن آنستم منهم رشدا شرط ثان مقيد للشرط الأول المستفاد من " إذا بلغوا " . وهو وجوابه جواب إذا ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصا في الجواب ، وتكون " إذا " نصا في الشرط ، فإن جواب إذا مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية .

وجاءت الآية على هذا التركيب لتدل على أن انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يعرف من المحجور الرشد ، وكل ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدة لزيادة التمتع بها .

ويتحصل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدر بالقرينة ، أن مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامة في كل جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلا على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإمام الحرمين . ومن العلماء من زعم أن ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأول في الحصول . ونسبه الزجاجي في كتاب الأذكار إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أن ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في الوجيز ، والإمام الرازي في النهاية ، وبنوا على ذلك فروعا في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحق ، فإن المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدم والتأخر ، ولا يظهر أثر للخلاف [ ص: 241 ] في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أن المالكية لا يرون لذلك تأثيرا . وهو الصواب .

واعلم أن هذا إذا قامت القرينة على أن المراد جعل الشرطين شرطا في الجواب ، وذلك إذا تجرد عن العطف بالواو ولو تقديرا ، فلذلك يتعين جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جوابا للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط ، كما في قوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم . وأما إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكل منهما جواب مستقل نحو قوله تعالى : يا أيها النبيء إنا أحللنا لك أزواجك ، إلى قوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبيء أن يستنكحها . فقوله إن وهبت شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : " إن أراد النبيء " ، شرط في انعقاد النكاح ، لئلا يتوهم أن هبة المرأة نفسها للنبيء تعين عليه تزوجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أن إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلا أنها وهبت نفسها .

وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط ، يجعل جواب أحدهما محذوفا دل عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جوابا للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدد الشروط وإنما يتأتى ذلك في نحو قولك إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن وفي نحو قولك إن صليت إن صمت أثبت من كل تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتى يصير أحدهما شرطا في الآخر .

هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثيرا وخصها تقي الدين السبكي برسالة . وهي مسألة سأل عنها القاضي ابن خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب الوفيات ، ولم يفصلها الدماميني في حاشية مغني اللبيب .

وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثم أطلق على أول ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو آنس من جانب الطور نارا أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية : [ ص: 242 ]

آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء

وكأن اختيار آنستم هنا دون علمتم للإشارة إلى أنه إن حصل أول العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل .

والرشد بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدم في وابتلوا اليتامى .

والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أن الأوصياء هم الذين يتولون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكما ، فقالوا : يتولى الوصي دفع مال محجوره عندما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولى ترشيد محجوره بتسليم ماله له .

وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلا بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشدوهم فيسمحوا لهم قبل ذلك . وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي محجوره ويبرئ المحجور الوصي لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت . إلا أن هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أما وصي القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصح أنه لا يرشد محجوره إلا بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل .

وعندي أن الخطاب في مثله لعموم الأمة ، ويتولى تنفيذه من إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معينين ، ولا شك أن الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة .

والآية ظاهرة في تقدم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان حتى المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنه لا يدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ .

[ ص: 243 ] والآية أيضا صريحة في أنه لم يحصل الشرطان معا : البلوغ والرشد ، لا يدفع المال للمحجور . واتفق على ذلك عامة علماء الإسلام ، فمن لم يكن رشيدا بعد بلوغه يستمر عليه الحجر ، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة . قال : ينتظر سبع سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر . وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى " فإن آنستم منهم رشدا " لأن أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط ، وهو أيضا يخالف القياس إذ ليس الحجر إلا لأجل السفه وسوء التصرف فأي أثر للبلوغ لولا أنه مظنة الرشد ، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده .

ودلت الآية بحكم القياس على أن من طرأ عليه السفه وهو بالغ أو اختل عقله لأجل مرض في فكره ، أو لأجل خرف من شدة الكبر ، أنه يحجر عليه إذ علة التحجير ثابتة ، وخالف في ذلك أيضا أبو حنيفة . قال : لا حجر على بالغ .

وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغلب : فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دفع مالها إليها .

والتنكير في قوله رشدا تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأن المواهي العقلية متحدة لا أفراد لها ، وإنما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحال أو تعدد المتعلقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمة ، وفي الدعوة إلى الحق ، قال تعالى وما أمر فرعون برشيد ، وقال عن قوم شعيب إنك لأنت الحليم الرشيد . وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أن المراد هنا الرشد في التصرف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرف بلام الجنس النكرة ، فمن العجائب توهم الجصاص أن في تنكير ( رشدا ) دليلا لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أن الله شرط رشدا ما وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرشد كله . وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنها لا أفراد لها . وقد أضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنها قوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمة من الحق في الأموال .

[ ص: 244 ] وقوله " ولا تأكلوها إسرافا " عطف على وابتلوا اليتامى باعتبار ما اتصل به من الكلام في قوله " فإن آنستم منهم رشدا " إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدم في قوله " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشدهم : وهي أن يتعجل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أن أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانا من أنعام وتمر وحب وأصواف فلم يكن شأنها مما يكتم ويختزن ، ولا مما يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الولي مال محجوره جشع إلى أكله بالتوسع في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه مما لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه بالإسراف فإن الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسع في شئون اللذات .

وانتصب ( إسرافا ) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل .

والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البدر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بدره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقع الأولياء سرعة إبانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأن المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدعي عليه ، ويقيم البينات حتى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله " أن يكبروا " في موضع المفعول لمصدر المفاعلة . ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعلم إذا زاد في السن ، وأما كبر بضم الموحدة إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر بضم الموحدة شق .

التالي السابق


الخدمات العلمية