الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

قد تقدم القول في مثل "أوعجبتم"؛ و"الذكر": لفظ عام للمواعظ؛ والأوامر؛ والنواهي؛ وقوله تعالى واذكروا ؛ الآية؛ تعديد للنعم عليهم؛ و"خلفاء"؛ جمع "خليف"؛ كـ "ظريف"؛ و"ظرفاء"؛ و"خليفة"؛ جمعه "خلائف"؛ والعرب تقول: "خليفة"؛ و"خليف"؛ وأنشد أبو علي :


فإن يزل زائل يوجد خليفته ... وما خليف أبي وهب بموجود



[ ص: 595 ] قال السدي وابن إسحاق : والمعنى: "جعلكم سكان الأرض بعد قوم نوح - عليه السلام".

وقوله تعالى وزادكم في الخلق بسطة ؛ أي في الخلقة؛ و"البسطة": الكمال في الطول؛ والعرض؛ وقيل: "زادكم على أهل عصركم"؛ قال الطبري : المعنى: "زادكم على قوم نوح"؛ وقاله قتادة .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: واللفظ يقتضي أن الزيادة هي على جميع العالم؛ وهو الذي يقتضي ما يذكر عنهم؛ وروي أن طول الرجل منهم كان مائة ذراع؛ وطول أقصرهم ستين؛ ونحو هذا.

و"الآلاء": جمع "إلى"؛ على مثال "معى"؛ وأنشد الزجاج :


أبيض لا يرهب الهزال ولا ...     يقطع رحما ولا يخون إلى



وقيل: واحد الآلاء "ألي"؛ على مثال: "قفي"؛ وقيل: واحدها: "ألى"؛ على مثال: "حسا"؛ وهي النعمة؛ والمنة؛ و"تفلحون"؛ معناه: تدركون البغية؛ والآمال.

قال الطبري : وعاد هؤلاء - فيما حدث ابن إسحاق - من ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح؛ وكانت مساكنهم الشحر من أرض اليمن؛ وما والى حضرموت إلى عمان؛ وقال السدي : وكانوا بالأحقاف؛ وهي الرمال؛ وكانت بلادهم أخصب بلاد؛ فردها الله تعالى صحارى؛ وقال علي بن أبي طالب : إن قبر هود - عليه السلام - هنالك في كثيب أحمر يخالطه مدرة ذات أراك وسدر؛ وكانوا قد فشوا في جميع الأرض؛ وملكوا كثيرا بقوتهم؛ وعددهم؛ وظلموا الناس؛ وكانوا ثلاث عشرة قبيلة؛ وكانوا أصحاب أوثان؛ منها ما يسمى صداء؛ ومنها صمودا؛ ومنها الهياء؛ فبعث الله تعالى إليهم هودا - عليه السلام -؛ من [ ص: 596 ] أفضلهم؛ وأوسطهم نسبا؛ فدعاهم إلى توحيد الله تعالى ؛ وإلى ترك الظلم؛ قال ابن إسحاق : لم يأمرهم فيما يذكر بغير ذلك؛ فكذبوه وعتوا؛ واستمر ذلك منهم إلى أن أراد الله تعالى إنفاذ أمره؛ فأمسك عنهم المطر ثلاث سنين؛ فشقوا بذلك؛ وكان الناس في ذلك الزمان إذا همهم أمر فزعوا إلى المسجد الحرام بمكة؛ فدعوا الله تعالى فيه؛ تعظيما له؛ مؤمنهم وكافرهم؛ وأهل مكة يومئذ العماليق؛ وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بكر؛ فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وفدا إلى مكة؛ يستسقون الله تعالى لهم؛ فبعثوا قيل بن عير؛ ولقيم بن هزال؛ وعقيل بن أد بن عاد الأكبر؛ ومرثد بن سعد بن عفير؛ وكان هذا مؤمنا يكتم إيمانه؛ وجلهمة بن الخيبري; في سبعين رجلا من قومهم؛ فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم؛ فأنزلهم؛ وأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر؛ وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - فلما رأى معاوية طول إقامتهم؛ وقد بعثتهم عاد للغوث; أشفق على عاد؛ وكان ابن أختهم كلهدة بنت الخيبري جلهمة؛ وقال: هلك أخوالي؛ وشق عليه أن يأمر أضيافه بالانصراف عنه؛ فشكا ذلك إلى القينتين؛ فقالتا له: اصنع شعرا نغني به؛ عسى أن ننبههم؛ فقال:


ألا يا قيل ويحك قم فهينم ...     لعل الله يسقينا غماما


فيسقي أرض عاد إن عادا ...     قد امسوا لا يبينون الكلاما


من العطش الشديد فليس نرجو ...     به الشيخ الكبير ولا الغلاما


وقد كانت نساؤهم بخير ...     فقد أمست نساؤهم عيامى


وإن الوحش يأتيهم جهارا ...     ولا يخشى لعادي سهاما


وأنتم ههنا فيما اشتهيتم ...     نهاركم وليلكم التماما


فقبح وفدكم من وفد قوم ...     ولا لقوا التحية والسلاما



فغنت به الجرادتان؛ فلما سمعه القوم قال بعضهم: يا قوم؛ إنما بعثكم قومكم لما حل بهم؛ فادخلوا هذا الحرم وادعوا؛ لعل الله تعالى يغيثهم؛ فخرجوا لذلك؛ فقال لهم [ ص: 597 ] مرثد بن سعد : إنكم والله ما تسقون بدعائكم؛ ولكنكم إن أطعتم نبيكم؛ وآمنتم به؛ سقيتم؛ وأظهر إيمانه يومئذ؛ فخالفه الوفد؛ وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احبسا عنا مرثدا؛ ولا يدخل معنا الحرم؛ فإنه قد اتبع هودا؛ ومضوا إلى مكة فاستسقى قيل بن عير؛ وقال: يا إلهنا إن كان هود صالحا؛ فاسقنا؛ فإنا قد هلكنا؛ فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا؛ بيضاء؛ وحمراء؛ وسوداء؛ ثم ناداه مناد من السحاب: "يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب"؛ فقال قيل: قد اخترت السوداء؛ فإنها أكثرها ماء؛ فنودي: "اخترت رمادا رمددا؛ لا تبقي من عاد أحدا؛ لا والدا ولا ولدا؛ إلا جعلتهم همدا"؛ وساق الله تعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل إلى عاد؛ حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له: "المغيث"؛ فلما رأوها قالوا: هذا عارض ممطرنا؛ حتى عرفت أنها ريح امرأة من عاد يقال لها: "مهدد"؛ فصاحت؛ وصعقت؛ فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت ريحا كشهب النار؛ أمامها رجال يقودونها؛ فسخرها الله تعالى عليهم ثمانية أيام حسوما؛ وسبع ليال؛ و"الحسوم": الدائمة؛ فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك؛ فاعتزل هود ومن معه في حظيرة؛ ما يصيبه من الريح إلا ما يلتذ به.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا قصص وقع في تفسير الطبري مطولا؛ وفيه اختلاف؛ فاقتضبت عيون ذلك؛ بحسب الإيجاز؛ وفي خبرهم أن الريح كانت تدمغهم بالحجارة؛ وترفع الظعينة؛ عليها المرأة حتى تلقيها في البحر؛ وفي خبرهم أن أقوياءهم كان أحدهم يسد بنفسه مهب الريح حتى تغلبه؛ فتلقيه في البحر؛ فيقوم آخر مكانه؛ حتى هلك الجميع؛ وقال زيد بن أسلم : بلغني أن ضبعا ربت أولادها في حجاج عين رجل منهم؛ وفي خبرهم أن الله تعالى بعث - لما هلكت عاد - طيرا؛ وقيل: أسدا؛ فنقلت جيفهم حتى طرحتها في البحر؛ فذلك قوله تعالى فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ؛ وفي بعض ما روي من شأنهم أن الريح لم تبعث قط إلا بمكيال؛ إلا يومئذ؛ فإنها تمت على الخزنة فغلبتهم؛ فذلك قوله [ ص: 598 ] - تبارك وتعالى -: فأهلكوا بريح صرصر عاتية ؛ وروي أن هودا - لما هلكت عاد - نزل بمن آمن معه إلى مكة؛ فكانوا بها حتى ماتوا؛ فالله تعالى أعلم أي ذلك كان.

وقوله تعالى قالوا أجئتنا ؛ الآية؛ ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم؛ ويفردوا العبادة لله تعالى ؛ مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع؛ ويحتمل أن يكونوا منكرين لله تعالى ويكون قولهم: لنعبد الله وحده ؛ أي على قولك يا هود؛ والتأويل الأول أظهر فيهم؛ وفي عباد الأوثان كلهم؛ ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كأربد بن ربيعة؛ وإلا من ادعاها لنفسه؛ كفرعون؛ ونمرود؛ وقولهم: "فأتنا"؛ تصميم على التكذيب؛ واحتقار لأمر النبوة؛ واستعجال للعقوبة؛ وتمكن قولهم: "تعدنا"؛ لما كان هذا الوعد مصرحا به في الشر؛ ولو كان ذكر الوعد مطلقا لم يجئ إلا في خير.

التالي السابق


الخدمات العلمية