الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم

أعلمهم بأن القضاء قد نفذ؛ وحل عليهم الرجز؛ وهو السخط؛ والعذاب؛ يقال: "رجس"؛ و"رجز"؛ بمعنى واحد؛ قاله أبو عمرو بن العلاء ؛ وقال الشاعر:


إذا سنة كانت بنجد محيطة ... فكان عليهم رجسها وعذابها



وقد يأتي الرجس أيضا بمعنى "النتن"؛ و"القذر"؛ ويقال في "الرجيع": "رجس"؛ و"ركز"؛ وهذا الرجس هو المستعار للمحرمات؛ أي ينبغي أن يجتنب كما يجتنب النتن؛ [ ص: 599 ] ونحوه في المعنى قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في خبر جهجاه الغفاري؛ وسنان بن وبرة الأنصاري حين دعوا بدعوى الجاهلية: "دعوها فإنها منتنة".

وقوله: أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ؛ إنما يريد أنهم يخاصمونه في أن تسمى آلهة؛ فالجدل إنما وقع في التسميات؛ لا في المسميات؛ لكنه ورد في القرآن: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم ؛ فهنا لا يريد إلا ذوات الأصنام؛ فالاسم إنما يراد به المسمى نفسه.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ومن رأى أن الجدل في هذه الآية إنما وقع في أنفس الأصنام وعبادتها تأول هذا التأويل؛ والاسم يرد في كلام العرب بمعنى التسمية؛ وهذا بابه الذي استعمله به النحويون؛ وقد يراد به المسمى؛ ويدل عليه ما قاربه من القول؛ من ذلك قوله تعالى سبح اسم ربك الأعلى ؛ على أن هذا يتأول؛ ومنه قول لبيد :


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ...      ...................



على تأويلات في البيت؛ وقد مضت المسألة في صدر الكتاب؛ و"السلطان": [ ص: 600 ] البرهان؛ وقوله: فانتظروا إني معكم من المنتظرين ؛ الآية؛ وعيد؛ وتهديد.

والضمير في قوله تعالى "فأنجيناه"؛ عائد على هود - عليه السلام -؛ أي: أخرجه الله تعالى سالما ؛ ناجيا؛ مع من اتبعه من المؤمنين؛ برحمة الله تعالى وفضله؛ وخرج هود - عليه السلام - ومن آمن معه؛ حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا. وقطعنا دابر ؛ استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك؛ و"الدابر": الذي يدبر القوم؛ ويأتي خلفهم؛ فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك؛ لم يبق أحد؛ وقوله: كذبوا بآياتنا ؛ دال على المعجزة؛ وإن لم تتعين لها.

وقوله تعالى وإلى ثمود ؛ الآية؛ هو ثمود بن غائن بن إرم بن سام بن نوح؛ أخو جديس بن غائن؛ وقرأ يحيى بن وثاب : "وإلى ثمود"؛ بكسر الدال؛ وتنوينه في جميع القرآن؛ وصرفه على اسم الحي؛ وترك صرفه على اسم القبيلة؛ قاله الزجاج ؛ وقال الله تعالى ألا إن ثمودا كفروا ربهم ؛ فالمعنى: "وأرسلنا إلى ثمود أخاهم"؛ فهو عطف على نوح؛ والأخوة هنا أخوة القرابة؛ وقال الزجاج : يحتمل أن تكون أخوة الآدمية؛ وسمي أخاهم لما بعث إليهم؛ وهم قوم عرب؛ وهود وصالح - عليهما السلام - عربيان؛ وكذلك إسماعيل وشعيب - عليهما السلام -؛ كذا قال النقاش ؛ وفي أمر إسماعيل - عليه السلام - نظر؛ وصالح - عليه السلام - هو صالح بن عبيد بن عارم بن إرم بن سام بن نوح؛ كذا ذكر مكي ؛ وقال وهب : بعثه الله تعالى حين راهق الحلم؛ ولما هلك قومه ارتحل بمن معه إلى مكة؛ فأقاموا بها حتى ماتوا؛ فقبورهم بين دار الندوة؛ والحجر.

وقوله: "بينة"؛ صفة؛ حذف الموصوف؛ وأقيمت مقامه؛ قال سيبويه : وذلك قبيح في النكرة؛ أن تحذف وتقام صفتها مقامها؛ لكن إذا كانت الصفة كثيرة الاستعمال مشتهرة؛ وهي المقصود في الأخبار؛ والأمم؛ زال القبح؛ كما تقول: "جاءني عبد لبني فلان"؛ وأنت تريد: "جاءني رجل عبد"؛ لأن "عبد"؛ صفة؛ فكذلك قوله هنا "بينة"؛ المعنى: آية؛ أو حجة؛ أو موعظة بينة؛ وقال بعض الناس: إن صالحا - عليه السلام - جاء بالناقة من تلقاء نفسه؛ وقالت فرقة؛ وهي الجمهور: بل كانت مقترحة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا أليق بما ورد في الآثار من أمرهم؛ وروي أن بعضهم قال: يا صالح إن كنت [ ص: 601 ] صادقا فادع ربك يخرج لنا من هذه الهضبة - وفي بعض الروايات: من هذه الصخرة؛ لصخرة بالحجر؛ يقال لها الكاثبة - ناقة عشراء؛ قال: فدعا الله تعالى فتمخضت تلك الهضبة؛ وتنفضت؛ وانشقت عن ناقة عظيمة؛ وروي أنها كانت حاملا؛ فولدت سقبها المشهور؛ وروي أنه خرج معها فصيلها من الصخرة؛ وروي أن جملا من جمال ثمود ضربها فولدت فصيلها المشهور؛ وقيل "ناقة الله"؛ تشريفا لها؛ وتخصيصا؛ وهي إضافة خلق إلى خالق؛ وقال الزجاج : وقيل: إنها ناقة من سائر النوق؛ وجعل الله تعالى لها شربا يوما؛ ولهم شرب يوم؛ وكانت الآية في شربها وحلبها.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وحكى النقاش عن الحسن أنه قال: "هي ناقة اعترضها من إبلهم؛ ولم تكن تحلب"؛ والذي عليه الناس أقوى؛ وأصح من هذا؛ قال المفسرون: وكانت حلفا عظيما؛ تأتي إلى الماء بين جبلين فيزحمانها من العظم؛ وقاسمت ثمود في الماء؛ يوما بيوم؛ فكانت ترد يومها فتستوفي ماء بئر همشريا؛ ويحلبونها ما شاؤوا من لبن؛ ثم تمكث يوما؛ وترد بعد ذلك غبا؛ فاستمر ذلك ما شاء الله تعالى حتى أماتها ثمود؛ وقالوا: ما نصنع باللبن؟ الماء أحب إلينا منه؛ وكان سبب الملل - فيما روي - أنها كانت تصيف في بطن الوادي؛ وادي الحجر؛ وتشتو في ظاهره؛ فكانت مواشيهم تفر منها؛ فتصيف في ظهر الوادي للقيظ؛ وتشتو في باطنه للزمهرير؛ وفسدت لذلك؛ فتمالؤوا على قتل الناقة؛ فقال لهم صالح - عليه السلام - مرة: "إن هذا الشهر يولد فيه مولود يكون هلاككم على يديه"؛ فولد لعشرة نفر أولاد فذبح التسعة أولادهم؛ وبقي العاشر؛ وهو سالف؛ أبو قدار؛ فنشأ قدار أحمر أزرق؛ فكان التسعة إذا رأوه قالوا: لو عاش بنونا كانوا مثل هذا؛ فأحفظهم أن قتلوا أولادهم بكلام صالح؛ فأجمعوا على قتله - عليه السلام -؛ فخرجوا وكمنوا في غار ليبيتوه - عليه السلام -منه؛ وتقاسموا لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله ؛ فسقط الغار عليهم؛ فماتوا؛ فهم الرهط التسعة الذين ذكر الله تعالى في كتابه.

وهم قدار بن سالف؛ ومصدع بن مهرج؛ وضما إلى [ ص: 602 ] نفسيهما سبعة نفر؛ وعزموا على عقر الناقة؛ وروي أن السبب في ذلك أن امرأتين من ثمود؛ من أعداء صالح - عليه السلام - جعلتا لقدار ومصدع أنفسهما؛ وأموالهما؛ على أن يعقرا الناقة؛ وكانتا من أهل الجمال؛ وقيل: إن قدارا شرب الخمر مع قوم؛ فطلبوا ماء يمزجون به الخمر؛ فلم يجدوه؛ لشرب الناقة؛ فعزموا على عقرها حينئذ؛ فخرجوا؛ وجلسوا على طريقها؛ وكمن لها قدار خلف صخرة؛ فلما دنت منه رماها بالحربة؛ ثم سقطت فنحرها؛ ثم اتبعوا الفصيل؛ فهرب منهم؛ حتى علا ربوة؛ ورغا ثلاث مرات؛ واستغاث؛ فلحقوه؛ وعقروه؛ وفي بعض الروايات أنهم وجدوا الفصيل على رابية من الأرض؛ فأرادوه فارتفعت به؛ حتى لحقت به في السماء؛ فلم يقدروا عليه؛ فرغا الفصيل مستغيثا بالله - تبارك وتعالى -؛ فأوحى الله تعالى إلى صالح - عليه السلام - أن (مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام)؛ وحكى النقاش عن الحسن أنه قال: إن الله تعالى أنطق الفصيل؛ فنادى: أين أمي؟ فقال لهم صالح - عليه السلام -: "إن العذاب واقع بكم في الرابع من عقر الناقة"؛ وروي أنها عقرت يوم الأربعاء؛ وقال لهم صالح - عليه السلام -: "تحمر وجوهكم غدا؛ وتصفر في الثاني؛ وتسود في الثالث؛ وينزل العذاب في الرابع؛ يوم الأحد"؛ فلما ظهرت العلامة التي قال لهم؛ أيقنوا؛ واستعدوا؛ ولطخوا أبدانهم بالمن؛ وحفروا القبور؛ وتحنطوا؛ فأخذتهم الصيحة؛ وخرج صالح - عليه السلام - ومن معه حتى نزل رملة فلسطين.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا القصص اقتضبته من كثير أورده الطبري - رحمه الله - رغبة الإيجاز.

وقال أبو موسى الأشعري : أتيت بلاد ثمود فذرعت صدر الناقة فوجدته ستين ذراعا.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وبلاد ثمود هي بين الشام والمدينة؛ وهي التي مر بها رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - مع المسلمين في غزوة "تبوك"؛ فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم"؛ ثم اعتجر بعمامته؛ وأسرع السير - صلى اللـه عليه وسلم.

وروي أن المسافة [ ص: 603 ] التي أهلكت الصيحة أهلها هي ثمانية عشر ميلا؛ وهي: بلاد الحجر؛ ومراتعها الجناب؛ وحسمي إلى وادي القرى؛ وما حوله؛ وقيل في قدار: إنه ولد زنا؛ من رجل يقال له: "ظبيان"؛ وولد على فراش سالف؛ فنسب إليه؛ ذكره قتادة وغيره؛ وذكر الطبري أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - مر بقبر؛ فقال: "أتعرفون ما هذا؟"؛ قالوا: لا؛ قال: "هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف؛ كان من ثمود؛ فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم؛ فسلم؛ فلما خرج من الحرم أصابه ما أصابهم؛ فدفن هنا؛ وجعل معه غصن من ذهب"؛ قال: فابتدر القوم بأسيافهم؛ فحفروا حتى أخرجوا الغصن.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا الخبر يؤيد ما في السير من أن أبا رغال هو دليل الفيل؛ وحبيسه إلى مكة؛ والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية