الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة الثالثة

في الرجعة بعد الطلاق

- ولما كان الطلاق على ضربين : بائن ، ورجعي ; وكانت أحكام الرجعة بعد الطلاق البائن غير أحكام الرجعة بعد الطلاق الرجعي وجب أن يكون في هذا الجنس بابان :

الباب الأول : في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي .

الباب الثاني : في أحكام الارتجاع في الطلاق البائن .

[ ص: 463 ] الباب الأول

في أحكام الرجعة في الطلاق الرجعي .

- وأجمع المسلمون على أن الزوج يملك رجعة الزوجة في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة من غير اعتبار رضاها لقوله تعالى : ( وبعولتهن أحق بردهن في ذلك ) . وأن من شرط هذا الطلاق تقدم المسيس له ، واتفقوا على أنها تكون بالقول والإشهاد .

واختلفوا هل الإشهاد شرط في صحتها أم ليس بشرط ؟ وكذلك اختلفوا هل تصح الرجعة بالوطء ؟

فأما الإشهاد : فذهب مالك إلى أنه مستحب . وذهب الشافعي إلى أنه واجب .

وسبب الخلاف : معارضة القياس للظاهر : وذلك أن ظاهر قوله تعالى : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) يقتضي الوجوب ، وتشبيه هذا الحق بسائر الحقوق التي يقبضها الإنسان يقتضي أن لا يجب الإشهاد ، فكان الجمع بين القياس والآية حمل الآية على الندب .

وأما اختلافهم فيما تكون به الرجعة ، فإن قوما قالوا : لا تكون الرجعة إلا بالقول فقط ، وبه قال الشافعي . وقوم قالوا : تكون رجعتها بالوطء ، وهؤلاء انقسموا قسمين :

فقال قوم : لا تصح الرجعة بالوطء إلا إذا نوى بذلك الرجعة ، لأن الفعل عنده يتنزل منزلة القول مع النية ، وهو قول مالك . وأما أبو حنيفة فأجاز الرجعة بالوطء إذا نوى بذلك الرجعة ودون النية .

فأما الشافعي : فقاس الرجعة على النكاح ، وقال : قد أمر الله بالإشهاد ، ولا يكون الإشهاد إلا على القول .

وأما سبب الاختلاف بين مالك ، وأبي حنيفة : فإن أبا حنيفة يرى أن الرجعية محللة الوطء عنده قياسا على المولى منها وعلى المظاهرة ولأن الملك لم ينفصل عنده ، ولذلك كان التوارث بينهما . وعند مالك أن وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها ، فلا بد عنده من النية . فهذا هو اختلافهم في شروط صحة الرجعة .

واختلفوا في مقدار ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ما دامت في العدة ، فقال مالك : لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلا بإذنها ، ولا ينظر إلى شعرها ، ولا بأس أن يأكل معها إذا كان معهما غيرهما . وحكى ابن القاسم أنه رجع عن إباحة الأكل معها . وقال أبو حنيفة : لا بأس أن تتزين الرجعية لزوجها ، وتتطيب له وتتشوف وتبدي البنان والكحل ، وبه قال الثوري ، وأبو يوسف ، والأوزاعي ، وكلهم قالوا : لا يدخل عليها إلا أن تعلم بدخوله بقول أو حركة من تنحنح أو خفق نعل .

واختلفوا في هذا الباب في الرجل يطلق زوجته طلقة رجعية وهو غائب ، ثم يراجعها ، فيبلغها الطلاق ولا تبلغها الرجعة ، فتتزوج إذا انقضت عدتها :

فذهب مالك إلى أنها للذي عقد عليها النكاح ، دخل بها أو لم يدخل ، هذا قوله في الموطأ ، وبه قال الأوزاعي والليث . وروى عنه ابن القاسم أنه رجع عن القول الأول ، وأنه قال : الأول أولى بها إلا أن يدخل الثاني ، وبالقول الأول قال المدنيون من أصحابه قالوا : ولم يرجع عنه لأنه أثبته في موطئه إلى يوم مات وهو يقرأ عليه ، وهو قول عمر بن الخطاب ورواه عنه مالك في الموطأ .

وأما الشافعي ، والكوفيون ، وأبو حنيفة وغيرهم فقالوا : زوجها الأول الذي ارتجعها أحق بها [ ص: 464 ] دخل بها الثاني أو لم يدخل ، وبه قال داود ، وأبو ثور ، وهو مروي عن علي وهو الأبين .

وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة : إن الزوج الذي ارتجعها مخير بين أن تكون امرأته أو أن يرجع عليها بما كان أصدقها .

وحجة مالك في الرواية الأولى : ما رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه قال : مضت السنة في الذي يطلق امرأته ثم يراجعها فيكتمها رجعتها حتى تحل فتنكح زوجا غيره أنه ليس له من أمرها شيء ، ولكنها لمن تزوجها ، وقد قيل إن هذا الحديث إنما يروى عن ابن شهاب فقط .

وحجة الفريق الأول : أن العلماء قد أجمعوا على أن الرجعة صحيحة وإن لم تعلم بها المرأة ، بدليل أنهم قد أجمعوا على أن الأول أحق بها قبل أن تتزوج ، وإذا كانت الرجعة صحيحة كان زواج الثاني فاسدا ، فإن نكاح الغير لا تأثير له في إبطال الرجعة لا قبل الدخول ولا بعد الدخول ، وهو الأظهر إن شاء الله ، ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أيما امرأة تزوجها اثنان فهي للأول منهما ، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما " .

التالي السابق


الخدمات العلمية