الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
و ( للذكر ) : إما أن يقدر محذوف ، أي : للذكر منهم ، أو تنوب الألف واللام عن الضمير على رأي من يرى ذلك التقدير لذكرهم . و ( مثل ) : صفة لمبتدأ محذوف تقديره حظ مثل .

قال الفراء : ولم يعمل ( يوصيكم ) في ( مثل ) إجراء له مجرى القبول في حكاية الجمل ، فالجملة في موضع نصب بـ ( يوصيكم ) . وقال الكسائي : ارتفع ( مثل ) على حذف ( أن ) ، تقديره : أن للذكر . وبه قرأ ابن أبي عبلة . وأريد بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين - حالة اجتماع الذكر والأنثيين فله سهمان ، كما أن لهما سهمين . وأما إذا انفرد الابن فيأخذ المال ، أو البنتان فسيأتي حكم ذلك . ولم تتعرض الآية للنص على هاتين المسألتين .

وقال أبو مسلم الأصبهاني : نصيب الذكر هنا هو الثلثان ، فوجب أن يكون نصيب الأنثيين . وقال أبو بكر الرازي : إذا كان نصيبها مع الذكر الثلث ، فلأن يكون نصيبها مع أنثى الثلث أولى ؛ لأن الذكر أقوى من الأنثى . وقيل : حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى ، وإلا لزم حظ الذكر مثل حظ الأنثى ، وهو خلاف النص ، فوجب أن يكون حظهما الثلثين ؛ لأنه لا قائل بالفرق . فهذه وجوه ثلاثة مستنبطة من الآية تدل على أن فرض البنتين الثلثان . ووجه رابع من القياس الجلي وهو أنه لم يذكر هنا حكم الثنتين ، وذكر حكم الواحدة وما فوق الثنتين . وفي آخر السورة ذكر حكم الأخت الواحدة ، وحكم الأختين ، ولم يذكر حكم الأخوات ، فصارت الآيتان مجملتين من وجه ، مبينتين من وجه .

فنقول : لما كان نصيب الأختين الثلثين ، كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب إلى الميت . ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزاد على الثلثين ، وجب أن لا يزاد نصيب الأخوات على ذلك ؛ لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى . وقال الماتريدي : في الآية دليل على أن المال كله للذكر إذا لم كن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل ما للأنثيين . وقد جعل للأنثى النصف إذا لم يكن معها ذكر بقوله : ( وإن كانت واحدة فلها النصف ) فدل على أن للذكر حالة الانفراد مثلي ذلك ، ومثلا النصف هو الكل ، انتهى .

وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : ( يوصيكم ) بالتشديد . وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة والأعرج : ثلثا والثلث والربع والسدس والثمن بإسكان الوسط ، والجمهور بالضم ، وهي لغة الحجاز و بني أسد ، قاله النحاس من الثلث إلى العشر . وقال الزجاج : هي لغة واحدة ، والسكون تخفيف ، وتقدير الآية : يوصيكم الله في شأن أولادكم الوارثين للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين حالة اجتماعهم مما ترك المورثون إن انفرد بالإرث ، فإن كان معهما ذو فرض كان ما يبقى من المال لهما ، والفروض هي المذكورة في القرآن ، وهي ستة : النصف ، والربع ، والثمن ، والثلثان ، والثلث ، والسدس .

( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) ظاهر هذا التقسيم أن ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك موروثهما ، وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن . ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث ، وقصد هنا بيان حكم الإناث ، أخلص الضمير للتأنيث . إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد ، فعاد الضمير على أحد القسمين ، وكأن قوله تعالى : ( في أولادكم ) في قوة قوله : ( في أولادكم ) الذكور والإناث . وإذا كان الضمير قد عاد على جمع التكسير العاقل المذكر بالنون في نحو قوله : ( ورب الشياطين ومن أضللن ) ، كما يعود على الإناث كقوله : ( والوالدات يرضعن ) فلأن يعود على جمع التكسير [ ص: 182 ] العاقل الجامع للمذكر والمؤنث ، باعتبار أحد القسمين الذي هو المؤنث - أولى ، واسم ( كان ) الضمير العائد على أحد قسمي الأولاد ، والخبر ( نساء ) بصفته الذي هو فوق اثنتين ؛ لأنه لا تستقل فائدة الأخبار بقوله : ( نساء ) وحده ، وهي صفة للتأكيد ، ترفع أن يراد بالجمع قبلهما طريق المجاز ، إذ قد يطلق الجمع ويراد به التشبيه ، وأجاز الزمخشري ( نساء ) خبرا ثانيا ل ( كان ) ، وليس بشيء ؛ لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد . ولو سكت على قوله : فإن كن نساء لكان نظير : إن كان الزيدون رجالا ، وهذا ليس بكلام . وقال بعض البصريين : التقدير : وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين . وقدره الزمخشري : البنات أو المولودات .

وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يصح أن يكون الضميران في ( كن ) و ( كانت ) مبهمين ، ويكون ( نساء ) و ( واحدة ) تفسيرا لهما على أن ( كان ) تامة ؟ قلت : لا أبعد ذلك ، انتهى . ونعني بالإبهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدم ، بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما ، وهذا الذي لم يبعده الزمخشري هو بعيد ، أو ممنوع ألبتة ؛ لأن ( كان ) ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده ، بل هو مختص من الأفعال بنعم وبئس وما حمل عليهما ، وفي باب التنازع على ما قرر في النحو . ومعنى ( فوق اثنتين ) : أكثر من اثنتين ، بالغات ما بلغن من العدد ، فليس لهن إلا الثلثان . ومن زعم أن معنى قوله : نساء فوق اثنتين اثنتان فما فوقهما ، وأن قوة الكلام تقتضي ذلك ك ابن عطية ، أو أن ( فوق ) زائدة ؛ مستدلا بأن ( فوق ) قد زيدت في قوله : ( فاضربوا فوق الأعناق ) فلا يحتاج في رد ما زعم إلى حجة لوضوح فساده . وذكروا أن حكم الثنتين في الميراث الثلثان كالبنات . قالوا : ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس ، فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر ، وما احتجوا به تقدم ذكره . وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت : ( أنه أعطى البنتين الثلثين ) . وبنات الابن أو الأخوات الأشقاء أو لأب كبنات الصلب في الثلثين إذا انفردن عن من يحجبهن .

( وإن كانت واحدة فلها النصف ) قرأ الجمهور : واحدة بالنصب على أنه خبر ( كان ) ، أي : وإن كانت هي أي البنت فذة ليس معها أخرى . وقرأ نافع : ( واحدة ) بالرفع على أن ( كان ) تامة و ( واحدة ) الفاعل . وقرأ السلمي : ( النصف ) بضم النون ، وهي قراءة علي وزيد في جميع القرآن . وتقدم الخلاف في ضم النون وكسرها في فنصف ما فرضتم في البقرة . وبنت الابن إذا لم تكن بنت صلب ، والأخت الشقيقة أو لأب ، والزوج إذا لم يكن للزوجة ولد ، ولا ولد ابن - كبنت الصلب ، لكل منهم النصف .

( ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ) لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون ، فذكر أن الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد ، وأبواه هما : أبوه وأمه . وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل : القمران ، فغلب القمر لتذكيره على الشمس ، وهي تثنية لا تقاس . وشمل قوله : وله ولد الذكر والأنثى ، والواحد والجماعة .

وظاهر الآية أن فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد ، أي ولد كان ، [ ص: 183 ] وباقي المال للولد ، ذكرا كان أو أنثى . والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد أنثى أخذ السدس فرضا ، والباقي تعصيبا . وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ( ولد ) فقالوا : السدس لكل واحد من أبويه ، والباقي للبنت أو الابن ، إذ الولد يقع على : الذكر ، والأنثى ، والجد ، وبنات الابن مع البنت ، والأخوات لأب مع أخت لأب وأم ، والواحدة من ولد الأم ، والجدات كالأب مع البنت في السدس . وقال مالك : لا ترث جدة أبي الأب . وقال ابن سيرين : لا ترث أم الأم .

والضمير في ( لأبويه ) عائد على ما عاد عليه الضمير في ( ترك ) ، وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه . و ( لكل واحد منهما ) بدل من ( أبويه ) ، ويفيد معنى التفصيل ، وتبيين أن السدس لكل واحد ، إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس ، وهو أبلغ وآكد من قولك : لكل واحد من أبويه السدس ، إذ تكرر ذكرهما مرتين : مرة بالإظهار ، ومرة بالضمير العائد عليهما . قال الزمخشري : و ( السدس ) مبتدأ ، وخبره ( لأبويه ) ، والبدل متوسط بينهما انتهى . وقال أبو البقاء : ( السدس ) رفع بالابتداء ، و ( لكل واحد منهما ) الخبر ، و ( لكل ) بدل من ( الأبوين ) ، و ( منهما ) نعت ل ( واحد ) . وهذا البدل هو بدل بعض من كل ، ولذلك أتى بالضمير ، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة ، لجواز أبواك يصنعان كذا ، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا . بل تقول : يصنع كذا . وفي قول الزمخشري : و ( السدس ) مبتدأ ، وخبره ( لأبويه ) - نظر ؛ لأن البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه ، كما مثلناه في قولك : أبواك كل واحد منهما يصنع كذا ، إذا أعربنا كلا بدلا . وكما تقول : إن زيدا عينه حسنة ، فلذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبرا فلا يكون المبدل منه هو الخبر ، واستغنى عن جعل المبدل منه خبرا بالبدل كما استغنى عن الإخبار عن اسم ( إن ) وهو المبدل منه بالإخبار عن البدل . ولو كان التركيب : ولأبويه السدسان ؛ لأوهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين ، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة ، وظاهر قوله ولأبويه - أنهما اللذان ولدا الميت قريبا لا جداه ، ولا من علا من الأجداد . وزعموا أن قوله : ( أولادكم ) يتناول من سفل من الأبناء ؛ قالوا : لأن الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع ، بخلاف قوله : في أولادكم . وفيما قالوه نظر ، وهما عندي سواء في الدلالة ، إن نظر إلى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريبا ، لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريبا ، لا من علا . أو إلى حمل اللفظ على مجازه ، فيشترك اللفظان في ذلك ، فينطلق الأبوان على من ولداه قريبا . ومن علا كما ينطلق الأولاد [ ص: 184 ] على من ولداهم قريبا . ومن سفل يبين حمله على الحقيقة في الموضعين أن ابن الابن لا يرث الابن ، وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع ، فلم ينزل ابن الابن منزلة الابن مع وجوده ، ولا الجدة منزلة الأم .

التالي السابق


الخدمات العلمية