nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28975إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=49ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=50انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا .
روى
ابن المنذر عن
أبي مجلز قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919130لما نزل قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ( 39 : 53 ) ، قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل فقال : والشرك بالله ؟ فسكت ثم قام إليه فقال : يا رسول الله والشرك بالله ؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية : nindex.php?page=treesubj&link=28861_19711_28675إن الله لا يغفر أن يشرك به وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابن أبي حاتم nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني عن
nindex.php?page=showalam&ids=50أبي أيوب الأنصاري في رجل شكا ابن أخيه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا ينتهي عن الحرام ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي أنها نزلت في
وحشي قاتل حمزة ـ رضي الله عنه ـ إذ أراد أن يسلم وخاف ألا يقبل إسلامه ، وذكر في ذلك محاورة ومراجعة عزاها إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهي لا تصح فلا حاجة إلى إيرادها .
الأستاذ الإمام : قالوا في سبب نزول هذه الآية قصة وحشي ، وأنه ندم على قتله لما أخلفه مولاه ما وعده من عتقه ، وراجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إسلامه ، فكأنهم يثبتون أن الله جلت عظمته كان يداعب
وحشيا وأصحابه ويستميلهم بآية بعد آية ، ولا حاجة إلى هذا كله ، فالكلام ملتئم بعضه مع بعض ، فهو بعد ما ذكر من شأن
اليهود وأن عمدتهم
[ ص: 120 ] في تكذيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحريف أحبارهم للكتاب ، واتباعهم لهم في أمر الدين كما قال في آية أخرى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ( 9 : 31 ) ، وورد في تفسيرها المرفوع أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم من غير رجوع إلى أصل الكتاب ، فهذه الآية تشير إلى أنهم وقعوا في الشرك المشار إليه في الآية الأخرى ; إذ الشرك بالله يتحقق باعتماد الإنسان على غير الله مع الله في طلب النجاة من رزايا الدنيا ومصائبها ، أو من العذاب في الآخرة ، كما يتحقق بالأخذ بقول بعض الناس في التشريع كالعبادات ، والعقائد ، والحلال والحرام ، وإثبات الشرك
لليهود هنا وفي تلك الآية لا ينافي تسميتهم
أهل الكتاب الذي يدخل فيه الإيمان بالله والأنبياء ، فإنه قال في الآية السابقة : فلا يؤمنون إلا قليلا أي : إيمانا لا يعتد به ; إذ لا يقي صاحبه من الشرك .
أقول : قد بينا في مواضع كثيرة من التفسير حقيقة
nindex.php?page=treesubj&link=29436الشرك في الألوهية وهو : الشعور بسلطة وتأثير وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى ، وكل قول وعمل ينشأ عن ذلك الشعور ،
nindex.php?page=treesubj&link=29436والشرك في الربوبية هو : الأخذ بشيء من أحكام الدين والحلال والحرام عن بعض البشر دون الوحي ، وهذا النوع من الشرك هو الذي أشار الأستاذ الإمام إلى تفسير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لآية التوبة به ، وهي قوله تعالى في
أهل الكتاب كلهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ( 9 : 31 ) ، فسر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتخاذهم أربابا بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام كما ذكرنا غير مرة ، فهذا إثبات لطروء الشرك على
أهل الكتاب ، وإن لم يجعل ذلك عنوانا لهم في القرآن ؛ لأنه ليس من أصل دينهم وليميزهم عن مشركي الوثنيين ، وبينا أيضا أن الشرك في الألوهية والربوبية قد سرى منذ قرون كثيرة إلى بعض المسلمين حتى عرفت طوائف منهم بنبذ الإسلام ألبتة كطوائف
الباطنية ( راجع مباحث الشرك في ص 57 ، 68 و 354 - 360 من جزء التفسير الثاني وفي ص 24 ، 45 ، 325 ، 347 من جزئه الثالث ، 82 من جزئه الخامس وفي غير هذه المواضع من التفسير والمنار ) وبإثبات الشرك
لأهل الكتاب تظهر مناسبة وضع هذه الآية بين هذه الآيات في محاجتهم ودعوتهم إلى الإسلام ، كأنه يقول : لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء ، وقد هدمتم أساس دينهم بالشرك الذي لا يغفره الله بحال من الأحوال .
أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك ، فهي أن الدين إنما شرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم ، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم ، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم ; لأنه عبارة عن رفعهم لأفراد منهم أو لبعض المخلوقات التي هي دونهم أو مثلهم إلى مرتبة يقدسونها ويخضعون
[ ص: 121 ] لها ويذلون بدافع الشعور بأنها ذات سلطة عليا فوق سنن الكون وأسبابه ، وأن إرضاءها وطاعتها هو عين طاعة الله تعالى ، أو شعبة منها لذاتها ، فهذه الخلة الدنيئة هي التي كانت سبب استبداد رؤساء الدين والدنيا بالأقوام والأمم واستعبادهم إياهم وتصرفهم في أنفسهم وأموالهم ومصالحهم ومنافعهم تصرف السيد الملك القاهر بالعبد الذليل الحقير ، وناهيك بما كان لذلك من الأخلاق السافلة والرذائل الفاشية من الذل والمهانة والدناءة والتملق والكذب والنفاق وغير ذلك .
والتوحيد الذي يناقض الشرك هو عبارة عن إعتاق الإنسان من رق العبودية لكل أحد من البشر ، وكل شيء من الأشياء السماوية والأرضية ، وجعله حرا كريما عزيزا لا يخضع خضوع عبودية مطلقة إلا لمن خضعت لسننه الكائنات ، بما أقامه فيها من النظام في ربط الأسباب بالمسببات ، فلسننه الحكيمة يخضع ، ولشريعته العادلة المنزلة يتبع ، وإنما خضوعه هذا خضوع لعقله ووجدانه ، لا لأمثاله في البشرية وأقرانه ، وأما طاعته للحكام فهي طاعة للشرع الذي رضيه لنفسه ، والنظام الذي يرى فيه مصلحته ومصلحة جنسه ، لا تقديسا لسلطة ذاتية لهم ، ولا ذلا واستخذاء لأشخاصهم ، فإن استقاموا على الشريعة أعانهم ، وإن زاغوا عنها استعان بالأمة فقومهم ، كما قال الخليفة الأول في خطبته الأولى بعد نصب الأمة له ومبايعتها إياه : " وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني " ، فهكذا يجب أن يكون شأن الموحدين مع حكامهم ، وهكذا يكونون سعداء في دنياهم بالتوحيد ، كما يكونون أشقياء بالشرك الجلي أو الخفي .
وأما سعادة الآخرة وشقاؤها فهو أشد وأبقى ، والمدار فيهما على التوحيد والشرك أيضا ، إن
nindex.php?page=treesubj&link=29674روح الموحدين تكون راقية عالية لا تهبط بها الذنوب العارضة إلى الحضيض الذي تهوي فيه أرواح المشركين ،
nindex.php?page=treesubj&link=28675فمهما عمل المشرك من الصالحات تبقى روحه سافلة مظلمة بالذل والعبودية والخضوع لغير الله تعالى ، فلا ترتقي بعملها إلى المستوى الذي تنعم فيه أرواح الموحدين العالية في أجسادهم الشريفة ، ومهما أذنب الموحدون ، فإن ذنوبهم لا تحيط بأرواحهم ، وظلمتها لا تعم قلوبهم ; لأنهم بتوحيد الله ومعرفته وعز الإيمان ورفعته يغلب خيرهم على شرهم ، ولا يطول الأمد وهم في غفلتهم عن ربهم ، بل هم كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ( 7 : 201 ) ، يسرعون إلى التوبة ، وإتباع الحسنة السيئة :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إن الحسنات يذهبن السيئات ( 11 : 114 ) ، فإذا ذهب أثر السيئة من النفس كان ذلك هو الغفران ، فكل سيئات الموحدين قابلة للمغفرة ; ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28975_19729ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أي : يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده المذنبين ،
[ ص: 122 ] وإنما مشيئته موافقة لحكمته ، وجارية على مقتضى سننه ، كما بينا ذلك في مواضع كثيرة من التفسير ( تراجع الفهارس عند مادة مشيئة ) وقد أشرنا إليها آنفا بقولنا : ومهما أذنب الموحدون إلخ ، وهو بيان لما يشاء غفرانه ، ولسننه في ذلك ، وأما سننه تعالى فيما لا يغفره من الذنوب فتظهر من المقابلة ، وتلك هي الذنوب التي لا يتوب منها صاحبها ولا يتبعها بالحسنات التي تزيل أثرها السيئ من النفس حتى يترتب عليه أثره السيئ في الدنيا ، ثم في الآخرة ، فإن العقاب على الذنوب عبارة عن ترتب آثارها في النفس عليها كما تؤثر الحرارة في الزئبق في الأنبوبة فيتمدد ويرتفع ، وتؤثر فيه البرودة فيتقلص وينخفض ، فهذا مثال سنته تعالى في تأثير الأعمال الصالحة والسيئة في نفوس البشر وجزائهم عليها كما بينا ذلك مرارا في التفسير وغيره ( راجع مادة ذنب وعقاب وجزاء في فهارس التفسير والمنار ) .
وقد اضطرب في فهم الآية على بلاغتها وظهورها أصحاب المقالات والمذاهب الذين جعلوا القرآن عضين ، فلم يأخذوه بجملته ويفسروا بعضه ببعض كالجمع بين المشيئة والحكمة والنظام ، بل نظروا في كل جملة على حدتها ، وحاولوا حملها على مقالاتهم
كالمرجئة والمعتزلة والخوارج وغيرهم ، فهذا يقول : إن الشرك وغير الشرك سواء في كونهما لا يغفران إلا بعد التوبة ، وهذا يقول : إنها دالة على عدم وجوب العقاب على الذنوب وجواز غفرانها كلها ما اجتنب الشرك ، وذاك يقول : إنها تكون على هذا مغرية بالمعاصي مجرئة عليها ، والآية فوق ذلك تحدد ما يترتب عليه العقاب في الدنيا والآخرة حتما لإفساده للنفوس البشرية وهو الشرك ، وتبين أن ما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفس ، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية ، فمنه ما يكون تأثيره السيئ في النفس قويا يقتضي العقاب ، ومنه ما يكون ضعيفا يغفر بالتأثير المضاد له من صالح الأعمال ـ راجع تفسير :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ( 4 : 17 ) ، إلخ ص 440 - 452 من جزء التفسير الرابع .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28975إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=49أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=50انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا .
رَوَى
ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ
أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919130لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=53قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 39 : 53 ) ، قَامَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْمِنْبَرِ فَتَلَاهَا عَلَى النَّاسِ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالشِّرْكُ بِاللَّهِ ؟ فَسَكَتَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : nindex.php?page=treesubj&link=28861_19711_28675إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ ، وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=16328ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ nindex.php?page=showalam&ids=14687وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=50أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ فِي رَجُلٍ شَكَا ابْنَ أَخِيهِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي عَنِ الْحَرَامِ ، وَذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=16785الْفَخْرُ الرَّازِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ إِذْ أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَخَافَ أَلَّا يُقْبَلَ إِسْلَامُهُ ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مُحَاوَرَةً وَمُرَاجَعَةً عَزَاهَا إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا .
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : قَالُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةُ وَحْشِيٍّ ، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى قَتْلِهِ لَمَّا أَخْلَفَهُ مَوْلَاهُ مَا وَعَدَهُ مِنْ عِتْقِهِ ، وَرَاجَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي إِسْلَامِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ كَانَ يُدَاعِبُ
وَحْشِيًّا وَأَصْحَابَهُ وَيَسْتَمِيلُهُمْ بِآيَةٍ بَعْدَ آيَةٍ ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا كُلِّهِ ، فَالْكَلَامُ مُلْتَئِمٌ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ ، فَهُوَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِ
الْيَهُودِ وَأَنَّ عُمْدَتَهُمْ
[ ص: 120 ] فِي تَكْذِيبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تَحْرِيفُ أَحْبَارِهِمْ لِلْكِتَابِ ، وَاتِّبَاعُهُمْ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ( 9 : 31 ) ، وَوَرَدَ فِي تَفْسِيرِهَا الْمَرْفُوعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْبَعُونَهُمْ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى أَصْلِ الْكِتَابِ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ وَقَعُوا فِي الشِّرْكِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى ; إِذِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِمَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ مَعَ اللَّهِ فِي طَلَبِ النَّجَاةِ مِنْ رَزَايَا الدُّنْيَا وَمَصَائِبِهَا ، أَوْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ فِي التَّشْرِيعِ كَالْعِبَادَاتِ ، وَالْعَقَائِدِ ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَإِثْبَاتُ الشِّرْكِ
لِلْيَهُودِ هُنَا وَفِي تِلْكَ الْآيَةِ لَا يُنَافِي تَسْمِيَتَهُمْ
أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ : فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ : إِيمَانًا لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; إِذْ لَا يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشِّرْكِ .
أَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ حَقِيقَةَ
nindex.php?page=treesubj&link=29436الشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ : الشُّعُورُ بِسُلْطَةٍ وَتَأْثِيرٍ وَرَاءَ الْأَسْبَابِ وَالسُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُلُّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ الشُّعُورِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29436وَالشِّرْكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ : الْأَخْذُ بِشَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَنْ بَعْضِ الْبَشَرِ دُونَ الْوَحْيِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الشِّرْكِ هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى تَفْسِيرِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِآيَةِ التَّوْبَةِ بِهِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=31اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 9 : 31 ) ، فَسَّرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اتِّخَاذَهُمْ أَرْبَابًا بِطَاعَتِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ ، فَهَذَا إِثْبَاتٌ لِطُرُوءِ الشِّرْكِ عَلَى
أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عُنْوَانًا لَهُمْ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ دِينِهِمْ وَلِيُمَيِّزَهُمْ عَنْ مُشْرِكِي الْوَثَنِيِّينَ ، وَبَيَّنَّا أَيْضًا أَنَّ الشِّرْكَ فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ قَدْ سَرَى مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عُرِفَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ بِنَبْذِ الْإِسْلَامِ أَلْبَتَّةَ كَطَوَائِفِ
الْبَاطِنِيَّةِ ( رَاجِعْ مَبَاحِثَ الشِّرْكِ فِي ص 57 ، 68 و 354 - 360 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي وَفِي ص 24 ، 45 ، 325 ، 347 مِنْ جُزْئِهِ الثَّالِثِ ، 82 مِنْ جُزْئِهِ الْخَامِسِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ ) وَبِإِثْبَاتِ الشِّرْكِ
لِأَهْلِ الْكِتَابِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ وَضْعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مُحَاجَّتِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَا يُغُرَّنَّكُمُ انْتِمَاؤُكُمْ إِلَى الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ هَدَمْتُمْ أَسَاسَ دِينِهِمْ بِالشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ .
أَمَّا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ مَغْفِرَةِ الشِّرْكِ ، فَهِيَ أَنَّ الدِّينَ إِنَّمَا شُرِعَ لِتَزْكِيَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَتَطْهِيرِ أَرْوَاحِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ ، وَالشَّرَكُ هُوَ مُنْتَهَى مَا تَهْبِطُ إِلَيْهِ عُقُولُ الْبَشَرِ وَأَفْكَارُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ ، وَمِنْهُ تَتَوَلَّدُ جَمِيعُ الرَّذَائِلِ وَالْخَسَائِسِ الَّتِي تُفْسِدُ الْبَشَرَ فِي أَفْرَادِهِمْ وَجَمْعِيَّاتِهِمْ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِمْ لِأَفْرَادٍ مِنْهُمْ أَوْ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ دُونَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ إِلَى مَرْتَبَةٍ يُقَدِّسُونَهَا وَيَخْضَعُونَ
[ ص: 121 ] لَهَا وَيَذِلُّونَ بِدَافِعِ الشُّعُورِ بِأَنَّهَا ذَاتُ سُلْطَةٍ عُلْيَا فَوْقَ سُنَنِ الْكَوْنِ وَأَسْبَابِهِ ، وَأَنَّ إِرْضَاءَهَا وَطَاعَتَهَا هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ شُعْبَةٌ مِنْهَا لِذَاتِهَا ، فَهَذِهِ الْخَلَّةُ الدَّنِيئَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ سَبَبَ اسْتِبْدَادِ رُؤَسَاءِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِالْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَاسْتِعْبَادِهِمْ إِيَّاهُمْ وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ تَصَرُّفَ السَّيِّدِ الْمَلِكِ الْقَاهِرِ بِالْعَبْدِ الذَّلِيلِ الْحَقِيرِ ، وَنَاهِيكَ بِمَا كَانَ لِذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَاشِيَةِ مِنَ الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالدَّنَاءَةِ وَالتَّمَلُّقِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُنَاقِضُ الشِّرْكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْتَاقِ الْإِنْسَانِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ ، وَجَعْلِهِ حُرًّا كَرِيمًا عَزِيزًا لَا يَخْضَعُ خُضُوعَ عُبُودِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ إِلَّا لِمَنْ خَضَعَتْ لِسُنَنِهِ الْكَائِنَاتُ ، بِمَا أَقَامَهُ فِيهَا مِنَ النِّظَامِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ ، فَلِسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ يَخْضَعُ ، وَلِشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ الْمُنَزَّلَةِ يَتْبَعُ ، وَإِنَّمَا خُضُوعُهُ هَذَا خُضُوعٌ لِعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ ، لَا لِأَمْثَالِهِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَأَقْرَانِهِ ، وَأَمَّا طَاعَتُهُ لِلْحُكَّامِ فَهِيَ طَاعَةٌ لِلشَّرْعِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ ، وَالنِّظَامِ الَّذِي يَرَى فِيهِ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ جِنْسِهِ ، لَا تَقْدِيسًا لِسُلْطَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُمْ ، وَلَا ذُلًّا وَاسْتِخْذَاءً لِأَشْخَاصِهِمْ ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَعَانَهُمْ ، وَإِنْ زَاغُوا عَنْهَا اسْتَعَانَ بِالْأُمَّةِ فَقَوَّمَهُمْ ، كَمَا قَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ نَصْبِ الْأُمَّةِ لَهُ وَمُبَايَعَتِهَا إِيَّاهُ : " وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي " ، فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُوَحِّدِينَ مَعَ حُكَّامِهِمْ ، وَهَكَذَا يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ ، كَمَا يَكُونُونَ أَشْقِيَاءَ بِالشِّرْكِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ .
وَأَمَّا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَشَقَاؤُهَا فَهُوَ أَشَدُّ وَأَبْقَى ، وَالْمَدَارُ فِيهِمَا عَلَى التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ أَيْضًا ، إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29674رُوحَ الْمُوَحِّدِينَ تَكُونُ رَاقِيَةً عَالِيَةً لَا تَهْبِطُ بِهَا الذُّنُوبُ الْعَارِضَةُ إِلَى الْحَضِيضِ الَّذِي تَهْوِي فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُشْرِكِينَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28675فَمَهْمَا عَمِلَ الْمُشْرِكُ مِنَ الصَّالِحَاتِ تَبْقَى رُوحُهُ سَافِلَةً مُظْلِمَةً بِالذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْخُضُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا تَرْتَقِي بِعَمَلِهَا إِلَى الْمُسْتَوَى الَّذِي تَنْعَمُ فِيهِ أَرْوَاحُ الْمُوَحِّدِينَ الْعَالِيَةُ فِي أَجْسَادِهِمُ الشَّرِيفَةِ ، وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ ، فَإِنَّ ذُنُوبَهُمْ لَا تُحِيطُ بِأَرْوَاحِهِمْ ، وَظُلْمَتَهَا لَا تَعُمُّ قُلُوبَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَعِزِّ الْإِيمَانِ وَرِفْعَتِهِ يَغْلِبُ خَيْرُهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ ، وَلَا يَطُولُ الْأَمَدُ وَهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ عَنْ رَبِّهِمْ ، بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ( 7 : 201 ) ، يُسْرِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ ، وَإِتْبَاعِ الْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=114إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ( 11 : 114 ) ، فَإِذَا ذَهَبَ أَثَرُ السَّيِّئَةِ مِنَ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغُفْرَانَ ، فَكُلُّ سَيِّئَاتِ الْمُوَحِّدِينَ قَابِلَةٌ لِلْمَغْفِرَةِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48nindex.php?page=treesubj&link=28975_19729وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ أَيْ : يَغْفِرُ مَا دُونَ الشِّرْكِ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُذْنِبِينَ ،
[ ص: 122 ] وَإِنَّمَا مَشِيئَتُهُ مُوَافِقَةٌ لِحِكْمَتِهِ ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى سُنَنِهِ ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّفْسِيرِ ( تُرَاجَعُ الْفَهَارِسُ عِنْدَ مَادَّةِ مَشِيئَةٍ ) وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا بِقَوْلِنَا : وَمَهْمَا أَذْنَبَ الْمُوَحِّدُونَ إِلَخْ ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا يَشَاءُ غُفْرَانَهُ ، وَلِسُنَنِهِ فِي ذَلِكَ ، وَأَمَّا سُنَنُهُ تَعَالَى فِيمَا لَا يَغْفِرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ فَتَظْهَرُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ ، وَتِلْكَ هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي لَا يَتُوبُ مِنْهَا صَاحِبُهَا وَلَا يُتْبِعُهَا بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزِيلُ أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ السَّيِّئُ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى الذُّنُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرَتُّبِ آثَارِهَا فِي النَّفْسِ عَلَيْهَا كَمَا تُؤَثِّرُ الْحَرَارَةُ فِي الزِّئْبَقِ فِي الْأُنْبُوبَةِ فَيَتَمَدَّدُ وَيَرْتَفِعُ ، وَتُؤَثِّرُ فِيهِ الْبُرُودَةُ فَيَتَقَلَّصُ وَيَنْخَفِضُ ، فَهَذَا مِثَالُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالسَّيِّئَةِ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَجَزَائِهِمْ عَلَيْهَا كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِرَارًا فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ ( رَاجِعْ مَادَّةَ ذَنْبٍ وَعِقَابٍ وَجَزَاءٍ فِي فَهَارِسِ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ ) .
وَقَدِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ عَلَى بَلَاغَتِهَا وَظُهُورِهَا أَصْحَابُ الْمَقَالَاتِ وَالْمَذَاهِبِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ، فَلَمْ يَأْخُذُوهُ بِجُمْلَتِهِ وَيُفَسِّرُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ ، بَلْ نَظَرُوا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ عَلَى حِدَّتِهَا ، وَحَاوَلُوا حَمْلَهَا عَلَى مَقَالَاتِهِمْ
كَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ ، فَهَذَا يَقُولُ : إِنَّ الشِّرْكَ وَغَيْرَ الشِّرْكِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمَا لَا يُغْفَرَانِ إِلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ ، وَهَذَا يَقُولُ : إِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى الذُّنُوبِ وَجَوَازِ غُفْرَانِهَا كُلِّهَا مَا اجْتُنِبَ الشِّرْكُ ، وَذَاكَ يَقُولُ : إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى هَذَا مُغْرِيَةً بِالْمَعَاصِي مُجَرِّئَةً عَلَيْهَا ، وَالْآيَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُحَدِّدُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتْمًا لِإِفْسَادِهِ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَهُوَ الشِّرْكُ ، وَتُبَيِّنُ أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ فِي إِفْسَادِ النَّفْسِ ، فَمَغْفِرَتُهُ مُمْكِنَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَشِيئَةُ الْإِلَهِيَّةُ ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ تَأْثِيرُهُ السَّيِّئُ فِي النَّفْسِ قَوِيًّا يَقْتَضِي الْعِقَابَ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ ضَعِيفًا يُغْفَرُ بِالتَّأْثِيرِ الْمُضَادِّ لَهُ مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ ـ رَاجِعْ تَفْسِيرَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=17إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينِ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ( 4 : 17 ) ، إِلَخْ ص 440 - 452 مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الرَّابِعِ .