الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الثالثة : أجمع العلماء على أن الذهب ، والفضة ، وسائر الأمتعة ; كل ذلك داخل في حكم الآية : يخمس ، ويقسم الباقي على الغانمين ، كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الرابعة : أما أرضهم المأخوذة عنوة ، فقد اختلف العلماء فيها ، فقال بعض العلماء : يخير الإمام بين قسمتها ، كما يفعل بالذهب ، والفضة ، ولا خراج عليها ، بل هي أرض عشر مملوكة للغانمين ، وبين وقفها للمسلمين بصيغة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : بغير صيغة ، ويدخل في ذلك تركها للمسلمين بخراج مستمر يؤخذ ممن تقر بيده ، وهذا التخيير هو مذهب الإمام أحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول : إذا قسمها الإمام ، فقيل : تخمس ، وهو أظهر ، وقيل : لا ، واختاره بعض أجلاء العلماء قائلا : إن أرض خيبر لم يخمس ما قسم منها .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن أرض خيبر خمست ، كما جزم به غير واحد ، ورواه أبو داود بإسناد صحيح عن الزهري .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا التخيير بين القسم ، وإبقائها للمسلمين ، الذي ذكرنا أنه مذهب الإمام أحمد - هو أيضا مذهب الإمام أبي حنيفة ، والثوري .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما مالك رحمه الله فذهب إلى أنها تصير وقفا للمسلمين ، بمجرد الاستيلاء عليها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الشافعي رحمه الله فذهب إلى أنها غنيمة يجب قسمها على المجاهدين ، بعد [ ص: 67 ] إخراج الخمس ، وسنذكر إن شاء الله حجج الجميع ، وما يظهر لنا رجحانه بالدليل .

                                                                                                                                                                                                                                      أما حجة الإمام الشافعي رحمه الله فهي بكتاب وسنة .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الكتاب ، فقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية ، فهو يقتضي بعمومه شمول الأرض المغنومة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما السنة : فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ، قسم أرض قريظة ، بعد أن خمسها ، وبني النضير ، ونصف أرض خيبر بين الغانمين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : فلو جاز أن يدعي إخراج الأرض ، جاز أن يدعي إخراج غيرها ، فيبطل حكم الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه ، الاستدلال بالآية : ظاهر ، وبالسنة غير ظاهر ; لأنه لا حجة فيه على من يقول بالتخيير ; لأنه يقول : كان مخيرا فاختار القسم ، فليس القسم واجبا ، وهو واضح كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      وحجة من قال بالتخيير : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قسم نصف أرض خيبر ، وترك نصفها ، وقسم أرض قريظة ، وترك قسم مكة ، فدل قسمه تارة ، وتركه القسم أخرى ، على التخيير .

                                                                                                                                                                                                                                      ففي " السنن " و " المستدرك " : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما ، جمع كل سهم مائة سهم ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف الباقي لمن ينزل به من الوفود ، والأمور ، ونوائب الناس " ، هذا لفظ أبي داود .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ : " عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما ، وهو الشطر لنوائبه ، وما ينزل به من أمر المسلمين ، فكان ذلك : الوطيح ، والكتيبة ، والسلالم ، وتوابعها " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ أيضا : " عزل نصفها لنوائبه ، وما ينزل به ; الوطيحة ، والكتيبة ، وما أحيز معهما ، وعزل النصف الآخر : فقسمه بين المسلمين ، الشق ، والنطاة ، وما أحيز معهما ، وكان سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أحيز معهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      ورد المخالف هذا الاحتجاج ، بأن النصف المقسوم من خيبر : مأخوذ عنوة ، والنصف الذي لم يقسم منها : مأخوذ صلحا ، وجزم بهذا ابن حجر في " فتح الباري " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في " شرح مسلم " في الكلام على قول أنس عند مسلم : وأصبناها [ ص: 68 ] عنوة ، ما نصه قال القاضي : قال المازري : ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة ، وقد روى مالك ، عن ابن شهاب ، أن بعضها فتح عنوة ، وبعضها صلحا ، قال : وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود ، أنه قسمها نصفين : نصفا لنوائبه ، وحاجته ، ونصفا للمسلمين ، قال : وجوابه ، ما قال بعضهم : إنه كان حولها ضياع وقرى أجلي عنها أهلها ، فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وما سواها للغانمين ، فكان قدر الذي جلوا عنه النصف ، فلهذا قسم نصفين . اهـ منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود في " سننه " : حدثنا حسين بن علي العجلي ، ثنا يحيى - يعني ابن آدم - ثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، وعبد الله بن أبي بكر ، وبعض ولد محمد بن مسلمة ، قالوا : بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يحقن دماءهم ، ويسيرهم ، ففعل ، فسمع بذلك أهل فدك ، فنزلوا على مثل ذلك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ; لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، ثنا عبد الله بن محمد ، عن جويرية ، عن مالك ، عن الزهري : أن سعيد بن المسيب أخبره : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، افتتح بعض خيبر عنوة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال أبو داود : وقرئ على الحارث بن مسكين ، وأنا شاهد ، أخبرهم ابن وهب ، قال : حدثني مالك ، عن ابن شهاب : أن خيبر كان بعضها عنوة ، وبعضها صلحا ، والكتيبة أكثرها عنوة ، وفيها صلح ; قلت لمالك : وما الكتيبة ؟ قال : أرض خيبر ، وهي أربعون ألف عذق .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الذي ذكرنا : يقدح في الاحتجاج لتخيير الإمام في القسم ، والوقفية بقضية خيبر كما ترى وحجة قول مالك رحمه الله ومن وافقه في أن أرض العدو المفتوحة عنوة تكون وقفا للمسلمين ، بمجرد الاستيلاء عليها - أمور :

                                                                                                                                                                                                                                      منها : قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه : " منعت العراق درهمها وقفيزها ، ومنعت الشام مديها ودينارها ، ومنعت مصر إردبها ودينارها ، وعدتم من حيث بدأتم ، وعدتم من حيث بدأتم ، وعدتم من حيث بدأتم ، شهد على ذلك ، لحم أبي هريرة ودمه " .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجه الاستدلال عندهم بالحديث : أن : " منعت العراق . . . إلخ " بمعنى [ ص: 69 ] ستمنع ; وعبر بالماضي إيذانا بتحقق الوقوع ، كقوله تعالى : ونفخ في الصور الآية [ 18 \ 99 ] و [ 36 \ 51 ] و [ 39 ، 68 ] [ 50 \ 20 ] ، وقوله : أتى أمر الله الآية [ 16 \ 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : فدل ذلك على أنها لا تكون للغانمين ; لأن ما ملكه الغانمون لا يكون فيه قفيز ولا درهم ، ولحديث مسلم هذا شاهد من حديث جابر عند مسلم أيضا ، ومن حديث أبي هريرة أيضا عند البخاري .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن حجر في " فتح الباري " في كتاب " فرض الخمس " ما نصه : وذكر ابن حزم : أن بعض المالكية احتج بقوله في حديث أبي هريرة : " منعت العراق درهمها " الحديث على أن الأرض المغنومة : لا تباع ، ولا تقسم ، وأن المراد بالمنع : منع الخراج ، ورده بأن الحديث ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة ، وأن المسلمين سيمنعون حقوقهم في آخر الأمر ، وكذلك وقع .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا أيضا بما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها ، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ في الصحيح عن عمر : " أما والذي نفسي بيده ، لولا أن أترك آخر الناس ببانا ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها ، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها " .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج أهل هذا القول أيضا : بأن الأرض المغنومة لو كانت تقسم ، لم يبق لمن جاء بعد الغانمين شيء ، والله أثبت لمن جاء بعدهم شركة بقوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ 59 \ 10 ] ، فإنه معطوف على قوله : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا [ 59 \ 8 ] ، وقوله : والذين تبوءوا الدار والإيمان [ 59 \ 9 ] ، وقول من قال : إن قوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم ، مبتدأ خبره : يقولون ، غير صحيح ; لأنه يقتضي أنه تعالى أخبر بأن كل من يأتي بعدهم يقول : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      والواقع خلافه ; لأن كثيرا ممن جاء بعدهم يسبون الصحابة ويلعنونهم ، والحق أن قوله : والذين جاءوا ، معطوف على ما قبله ، وجملة يقولون ، حال كما تقدم في " آل عمران " ، وهي قيد لعاملها وصف لصاحبها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 70 ] قال مقيده عفا الله عنه : هذه الأدلة التي استدل بها المالكية ، لا تنهض فيما يظهر ; لأن الأحاديث المذكورة لا يتعين وجه الدلالة فيها ; لأنه يحتمل أن يكون الإمام مخيرا ، فاختار إبقاءها للمسلمين ، ولم يكن واجبا في أول الأمر ، كما قدمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدلال بآية الحشر المذكورة واضح السقوط ; لأنها في الفيء ، والكلام في الغنيمة ، والفرق بينهما معلوم كما قدمنا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا أن الإمام مخير ، ويدل عليه كلام عمر في الأثر المار آنفا ، وبه تنتظم الأدلة ، ولم يكن بينها تعارض ، والجمع واجب متى ما أمكن .

                                                                                                                                                                                                                                      وغاية ما في الباب : أن تكون السنة دلت على تخصيص واقع في عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وتخصيص الكتاب بالسنة كثير .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القرطبي في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ، بعد أن ذكر القول بالتخيير ، ما نصه : " قال شيخنا أبو العباس رضي الله عنه : وكأن هذا جمع بين الدليلين ، ووسط بين المذهبين ، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه قطعا .

                                                                                                                                                                                                                                      ولذلك قال : " لولا آخر الناس " ، فلم يخبر بنسخ فعل النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا بتخصيصه بهم .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قيل : لا تعارض بين الأدلة على مذهب الشافعي ; لأن ما وقع فيه القسم من خيبر مأخوذ عنوة ، وما لم يقسم منها مأخوذ صلحا ، والنضير فيء ، وقريظة قسمت .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو قال قائل : إنها فيء أيضا ; لنزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يحكم فيهم سعدا ، لكان غير بعيد ، ولكن يرده : أن النبي صلى الله عليه وسلم خمسها ، كما قاله مالك ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      ومكة مأخوذة صلحا ; بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا ثابت في صحيح مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      فالجواب : أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة ، ولذلك أدلة واضحة .

                                                                                                                                                                                                                                      منها : أنه لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح ، ولا جاءه أحد منهم فصالحه على البلد ، وإنما جاءه أبو سفيان فأعطاه الأمان لمن دخل داره ، أو أغلق بابه ، [ ص: 71 ] أو دخل المسجد ، أو ألقى سلاحه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو كانت قد فتحت صلحا لم يقل : " من دخل داره ، أو أغلق بابه ، أو دخل المسجد - فهو آمن " ، فإن الصلح يقتضي الأمان العام .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ : " إنها لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار " .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي لفظ : " فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " ، وهذا صريح في أنها فتحت عنوة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أنه ثبت في الصحيح ، " أنه يوم فتح مكة جعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى ، وجعل أبا عبيدة على الحسر ، فأخذوا بطن الوادي ، ثم قال : " يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار " ، فجاءوا يهرولون ، فقال : " يا معشر الأنصار ، هل ترون إلى أوباش قريش ؟ " قالوا : نعم ، قال : " انظروا إذا لقيتوهم غدا أن تحصدوهم حصدا " ، وأخفى بيده ، ووضع يمينه على شماله ، وقال : " موعدكم الصفا " ، وجاءت الأنصار ، فأطافوا بالصفا ، قال : فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وجاءت الأنصار ، فأطافوا بالصفا ، فجاء أبو سفيان ، فقال : يا رسول الله أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن " .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرجه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر أهل المغازي تفصيل ما أجمل في حديث مسلم هذا ، فبينوا أنه قتل من الكفار اثنا عشر ، وقيل : قتل من قريش أربعة وعشرون ، ومن هذيل أربعة ، وقتل يومئذ من المسلمين ثلاثة ، وهم سلمة بن الميلاء الجهني ، وكرز بن جابر المحاربي نسبة إلى محارب بن فهر ، وخنيس بن خالد الخزاعي ، أخو أم معبد ، وقال كرز قبل أن يقتل في دفاعه عن خنيس : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 72 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قد علمت بيضاء من بني فهر


                                                                                                                                                                                                                                      نقية اللون نقية الصدر


                                                                                                                                                                                                                                      لأضربن اليوم عن أبي صخر

                                                                                                                                                                                                                                      وفيه نقل الحركة في الوقف ، ورجز حماس بن قيس المشهور يدل على القتال يوم الفتح ، وذكره الشنقيطي في مغازيه بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وزعم ابن قيس أن سيحفدا


                                                                                                                                                                                                                                      نساءهم خلته وأنشدا


                                                                                                                                                                                                                                      إن يقبلوا اليوم فمالي عله


                                                                                                                                                                                                                                      هذا سلاح كامل وأله


                                                                                                                                                                                                                                      وذو غرارين سريع السله


                                                                                                                                                                                                                                      وشهد المأزق فيه حطما


                                                                                                                                                                                                                                      مربب من قومه فانهزما


                                                                                                                                                                                                                                      وجاء فاستغلق بابها البتول


                                                                                                                                                                                                                                      فاستفهمته أينما كنت تقول


                                                                                                                                                                                                                                      فقال والفزع زعفر دمه


                                                                                                                                                                                                                                      إنك لو شهدت يوم الخندمه


                                                                                                                                                                                                                                      إذ فر صفوان وفر عكرمه


                                                                                                                                                                                                                                      وبو يزيد قائم كالمؤتمه


                                                                                                                                                                                                                                      واستقبلتنا بالسيوف المسلمه


                                                                                                                                                                                                                                      لهم نهيت خلفنا وهمهمه


                                                                                                                                                                                                                                      يقطعن كل ساعد وجمجمه


                                                                                                                                                                                                                                      ضربا فلا تسمع إلا غمغمه


                                                                                                                                                                                                                                      لم تنطقي باللوم أدنى كلمه

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الرجز صريح في وقوع القتال والقتل يوم فتح مكة ، ومصداقه في الصحيح كما تقدم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها أيضا : أن أم هانئ ، بنت أبي طالب رضي الله عنها أجارت رجلا ، فأراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " ، وفي لفظ عنها : " لما كان يوم فتح مكة ، أجرت رجلين من أحمائي ، فأدخلتهما بيتا ، وأغلقت عليهما بابا ، فجاء ابن أمي علي ، فتفلت عليهما بالسيف " فذكرت حديث الأمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ " ، وذلك ضحى ببطن مكة بعد الفتح ، وقصتها ثابتة في الصحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      فإجارتها له ، وإرادة علي رضي الله عنه قتله ، وإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم إجارتها - صريح في أنها فتحت عنوة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم ، أمر بقتل مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، وجاريتين .

                                                                                                                                                                                                                                      ولو كانت فتحت صلحا ، لم يؤمر بقتل أحد من أهلها ، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من [ ص: 73 ] عقد الصلح .

                                                                                                                                                                                                                                      وأمره صلى الله عليه وسلم بقتل من ذكر ، ثابت عنه صلى الله عليه وسلم . \ 5 وفي السنن بإسناد صحيح : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما كان يوم فتح مكة ، قال : أمنوا الناس إلا امرأتين وأربعة نفر ; اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " ، إلى غير ذلك من الأدلة .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه أدلة واضحة على أن مكة - حرسها الله - فتحت عنوة .

                                                                                                                                                                                                                                      وكونها فتحت عنوة : يقدح فيما ذهب إليه الشافعي من وجوب قسم الأرض المغنومة عنوة .

                                                                                                                                                                                                                                      فالذي يتفق عليه جميع الأدلة ، ولا يكون بينها أي تعارض : هو ما قدمنا من القول بالتخيير بين قسم الأرض ، وإبقائها للمسلمين ، مع ما قدمنا من الحجج ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا عرفت أن التحقيق أن مكة فتحت عنوة ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في رباع مكة : هل يجوز تملكها ، وبيعها ، وإيجارها ؟ على ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه لا يجوز شيء من ذلك ، وبه قال أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والثوري ، ومجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وإبراهيم ، والحسن ، وإسحاق . وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وكرهه مالك رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجاز جميع ذلك الشافعي ، وأبو يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                      وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وجماعة من الصحابة ومن بعدهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وتوسط الإمام أحمد ، فقال : تملك ، وتورث ، ولا تؤجر ، ولا تباع ، على إحدى الروايتين ، جمعا بين الأدلة ، والرواية الثانية كمذهب الشافعي .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية