الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما وصف سبحانه بواطنهم بما زهد فيهم لأن الإنسان بعقله كما أن المأكول بشكله، وكانت لهم أشكال تغر ناظرها لأن العرب كانت تقول: جمال المنظر يدل غالبا على حسن المخبر، قال تعالى: وإذا رأيتهم أي أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة [ ص: 80 ] أو أيها الرائي كائنا من كان بعين البصر تعجبك أجسامهم لضخامتها وصباحتها، فإن غايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ابن أبي [يعني] - الذي نزلت السورة بسببه - جسيما فصيحا صحيحا ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم. ولما وصف البواطن والظواهر، وكان قولهم: المرء بأصغريه قلبه ولسانه مشروطا كما هو ظاهر العبارة بمطابقة اللسان للقلب، قال معبرا بأداة الشك إشارة إلى أنهم لا يكلمونه صلى الله عليه وسلم إلا اضطرارا لأنهم لا يحبون مكالمته ولا باعث لهم عليها لما عندهم من أمراض القلوب: وإن يقولوا أي يوجد منهم قول في وقت من الأوقات تسمع لقولهم أي لأنه يكون بحيث يلذذ السمع ويروق الفكر لما فيه من الادهان مع الفصاحة فهو يأخذ بمجامع القلب.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخبر عن ظاهرهم، دل على أن ذلك الظاهر أمر لا حقيقة له، وأنهم لما وطنوا أنفسهم على الوقاحة وخلعوا لباس الحياء بالكذب [ ص: 81 ] بذلوا جميع الجهد في تحسين القول لأنه لا درك عليهم فيه فيما يحسبون بوجه لأنهم لا يحسبون للآخرة حسابا فقال: كأنهم أي في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم وفي الجبن والخور وعدم الانتفاع بهم في شيء من فهم أو ثبات فإنهم لا حقيقة لهم خشب جمع كثرة لخشبة وهو دليل على كثرتهم. ولما كان الخشب ربما أطلق على المغروس، نفى ذلك بقوله منبها بالتشديد على الكثرة: مسندة أي قد قطعت من مغارسها وقشرت وأسندت إلى الجدر لئلا يفسدها التراب، فهي بيض تلوح تعجب ناظرها ولا ثبات لها ولا باطن بثمرة ولا سقي فلا مدد سماوي [لها] أصلا يزكيها نوع زكاء فقد فقدت روح الإثبات الذي به كمالها كما فقد المنافق روح الإيمان الذي به كمال الناطق وبقاؤه، فهم في تلك الحالة أشباح بلا أرواح أجسام بلا أحلام.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من يقول ما لا يفعل يصير متهما لكل من يكلمه، لأنه لإخلافه له قد صار عدوه فيتوهم الناس كلهم أعداء له فيكسبه ذلك أشد الجبن، وذلك هو السبب الأعظم في تحسين قوله، قال: يحسبون أي لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم [ ص: 82 ] كل صيحة أي من نداء مناد في انفلات دابة أو إنشاد ضالة، ونحو ذلك عليهم أي واقعة. ولما كان من يظن عداوة الناس له يكون هو عدوا لهم، قال نتيجة ما مضى: هم أي خاصة العدو أي كامل العداوة بما دل عليه الإخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع دون الجمع إشارة إلى أنهم - في شدة عداوتهم للسلام وأهله وكمال قصدهم وشدة سعيهم فيه - على قلب واحد وإن أظهروا التودد في الكلام والتقرب به إلى أهل الإسلام، فإن ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم، فهو عيون لهم عليكم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما بين ذلك من سوء أحوالهم سبب عنه قوله: فاحذرهم لأن أعدى الأعداء العدو المداحي الذي يكاشرك وتحت ظلوعه الداء الدوي، فإن من استشعر أنك عدو له بغى لك الغوائل، وأغلب من يعجبك قوله على هذا الوصف يكون، ولكنه [يكون] بلطف الله دائم الخذلان منكوسا في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسر قوله تعالى: قاتلهم الله أي أحلهم الملك المحيط علما وقدرة محل [من] يقاتله عدو قاهر له أشد مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان حالهم في غاية العجب في صرفهم عن الإسلام أولا [ ص: 83 ] بالعمى عن الآيات الظاهرات، وثانيا عن الإخبار بأسرارهم، وخفي مكرهم وأخبارهم، وفي عدم صرفهم عما هم عليه من قبح السرائر وسوء الضمائر بتعكيس مقاصدهم، وتخييب مصادرهم في مكرهم ومواردهم، دل على ذلك بقوله: أنى أي كيف ومن أي وجه يؤفكون أي يصرفهم عن إدراك قبح ما هم عليه صارف ما كائنا ما كان ليرجعوا عنه إلى حسن الدين والأنس به وإدراك بركته وعظيم أثره.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية