الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ) لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول ، وميراث الأصول من الفروع ، أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا [ ص: 188 ] بالنسب وهو للزوجية هنا ، ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء . والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب والسبب الشامل للزوجية والولاء . وكان في صدر الإسلام يتوارث بالموالاة والخلف والهجرة ، فنسخ ذلك . وقدم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب ، لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما واستغناء كل منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلالة ، وبدئ بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء . ولما كان الذكر من الأولاد حظه مع الأنثى مثل حظ الأنثيين ، جعل في سبب التزوج - الذكر له مثلا حظ الأنثى . ومعنى ( كان لهن ولد ) أي : منكم أيها الوارثون ، أو من غيركم . والولد : هنا ظاهره أنه من ولدته لبطنها ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو أكثر ، وحكم بني الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن ، في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع .

( ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين ) الولد هنا كالولد في تلك الآية . والربع والثمن يشترك فيه الزوجات إن وجدن ، وتنفرد به الواحدة . وظاهر الآية : أنهما يعطيان فرضهما المذكور في الآيتين من غير عول ، وإلى ذلك ذهب ابن عباس . وذهب الجمهور إلى أن العول يلحق فرض الزوج والزوجة ، كما يلحق سائر الفرائض المسماة .

( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ) الكلالة : خلو الميت عن الوالد والولد ، قاله أبو بكر ، و عمر ، و علي ، و سليم بن عبيد ، والسدي ، و الحكم ، وابن زيد ، و السبيعي . وقالت طائفة : هي الخلو من الولد فقط . وروي عن أبي بكر وعمر ثم رجعا عنه إلى القول الأول . وروي أيضا عن ابن عباس ، وذلك مستقر من قوله في الإخوة مع الوالدين : إنهم يحطون الأم ويأخذون ما يحطونه . ويلزم على قوله : إذ ورثهم - بأن الفريضة كلالة أن يعطيهم الثلث بالنص . وقالت طائفة ، منهم الحكم بن عيينة ، هي الخلو من الولد . قال ابن عطية : وهذان القولان ضعيفان ؛ لأن من بقي والده أو ولده فهو موروث بنسب لا بتكلل . وأجمعت الأمة الآن على أن الإخوة لا يرثون مع ابن ولا أب ، وعلى هذا مضت الأعصار والأمصار . انتهى .

واختلف في اشتقاقها . فقيل : من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بعد إعياء . قال الأعشى :


فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى نلاقي محمدا



وقال الزمخشري : والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال ، وهو ذهاب القوة من الإعياء . فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد ، لأنها بالإضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة . انتهى . وقيل : هي مشتقة من تكلله النسب : أحاط به . وإذا لم يترك والدا ولا ولدا فقد انقطع طرفاه ، وهما عمودا نسبه ، وبقي موروثه لمن يتكلله نسبه ، أي : يحيط به من نواحيه كالإكليل . ومنه روض مكلل بالزهر . وقال الفرزدق :


ورثتم قناة المجد لا عن كلالة     عن ابني مناف عبد شمس وهاشم



وقال الأخفش : الكلالة من لا يرثه أب ولا أم . والذي عليه الجمهور أن الكلالة الميت الذي لا ولد له ولا مولود ، وهو قول جمهور أهل اللغة وصاحب العين ، وأبي منصور اللغوي ، وابن عرفة ، وابن الأنباري ، و العتبي ، وأبي عبيدة . وغلط أبو عبيدة في ذكر الأخ مع الأب والولد ، وقطرب في قوله : الكلالة اسم [ ص: 189 ] لمن عدا الأبوين والأخ ، وسمي ما عدا الأب والولد كلالة ، لأنه بذهاب طرفيه تكلله الورثة وطافوا به من جوانبه . ويرجح هذا القول نزول الآية في جابر ولم يكن له يوم نزولها ابن ولا أب ، لأن أباه قتل يوم أحد فصارت قصة جابر بيانا لمراد الآية . وأما الكلالة في الآية فقال عطاء : هو المال . وقالت طائفة : الكلالة الورثة ، وهو قول الراغب قال : الكلالة اسم لكل وارث . قال الشاعر :


والمرء يجمع للغنى     وللكلالة ما يسيم



وقال عمر وابن عباس : الكلالة الميت الموروث . وقالت طائفة : الورثة بجملتها كلهم كلالة .

وقرأ الجمهور : يورث بفتح الراء مبنيا للمفعول ، من أورث مبنيا للمفعول . وقرأ الحسن : بكسرها مبنيا للفاعل من أورث أيضا . وقرأ أبو رجاء والحسن والأعمش : بكسر الراء وتشديدها . من ورث . فأما على قراءة الجمهور ومعنى الكلالة أنه الميت أو الوارث ، فانتصاب الكلالة على الحال من الضمير المستكن في ( يورث ) . وإذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير : ذا كلالة ؛ لأن الكلالة إذ ذاك ليست نفس الضمير في ( يورث ) . وإن كان معنى الكلالة القرابة ، فانتصابها على أنها مفعول من أجله ، أي : يورث لأجل الكلالة . وأما على قراءة الحسن وأبي رجاء ، فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال ، والمفعولان محذوفان ، التقدير : يورث وارثه ماله في حال كونه كلالة . وإن كان المعني بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بـ يورث ، ويكون المفعول الثاني محذوفا ، تقديره : يورث كلالة ماله أو القرابة ، فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضا ، ويجوز في ( كان ) أن تكون ناقصة ، فيكون ( يورث ) في موضع نصب على الخبر . وتامة ، فتكون في موضع رفع على الصفة . ويجوز إذا كانت ناقصة والكلالة بمعنى الميت - أن يكون ( يورث ) صفة ، وينتصب كلالة على خبر كان ، أو بمعنى الوارث . فيجوز ذلك على حذف مضاف أي : وإن كان رجل موروث ذا كلالة . وقال عطاء : الكلالة المال ، فينتصب كلالة على أنه مفعول ثان ، سواء بني الفعل للفاعل أو للمفعول . وقال ابن زيد : الكلالة الوراثة ، وينتصب على الحال أو على النعت لمصدر محذوف ، تقديره : وراثة كلالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية