الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب المضمضة والاستنشاق من كف واحد

                                                                                                          28 حدثنا يحيى بن موسى حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن زيد قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا قال أبو عيسى وفي الباب عن عبد الله بن عباس قال أبو عيسى وحديث عبد الله بن زيد حديث حسن غريب وقد روى مالك وابن عيينة وغير واحد هذا الحديث عن عمرو بن يحيى ولم يذكروا هذا الحرف أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد وإنما ذكره خالد بن عبد الله وخالد بن عبد الله ثقة حافظ عند أهل الحديث وقال بعض أهل العلم المضمضة والاستنشاق من كف واحد يجزئ وقال بعضهم تفريقهما أحب إلينا وقال الشافعي إن جمعهما في كف واحد فهو جائز وإن فرقهما فهو أحب إلينا [ ص: 100 ]

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          [ ص: 100 ] قوله : ( حدثنا يحيى بن موسى ) ابن عبد ربه الحداني البلخي ، أبو زكريا لقبه " خت " بفتح المعجمة وتشديد المثناة ، ثقة روى عن عبد الوليد بن مسلم ووكيع وغيرهما ، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والسراج ، وقال ثقة مأمون مات سنة 240 أربعين ومائتين كذا في التقريب والخلاصة .

                                                                                                          ( نا إبراهيم بن موسى ) ابن يزيد التميمي أبو إسحاق الفراء الصغير الرازي الحافظ أحد بحور الحديث وكان أحمد ينكر على من يقول الصغير ويقول هو كبير في العلم والجلالة ، روى عن أبي الأحوص وخالد الطحان وغيرهما ، وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم ، قال أبو زرعة كتبت عنه مائة ألف حديث وهو أتقن وأحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة ، وثقه النسائي ، مات بعد العشرين ومائتين .

                                                                                                          ( نا خالد ) هو خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد المزني مولاهم ، الواسطي الطحان ، ثقة ثبت ، قال أحمد : كان ثقة دينا ، بلغني أنه اشترى نفسه من الله ثلاث مرات ، يتصدق بوزن نفسه فضة .

                                                                                                          ( عن عمرو بن يحيى ) ابن عمارة بن أبي حسن المازني المدني ، سبط عبد الله بن زيد ، وثقه أبو حاتم والنسائي ( عن أبيه ) هو يحيى بن عمارة ، وثقه النسائي وغيره ( عن عبد الله بن زيد ) هو عبد الله بن زيد بن عاصم ، وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان ، كذا قاله الحفاظ من المتقدمين والمتأخرين ، وغلطوا سفيان بن عيينة في قوله : هو هو ، وممن نص على غلطه في ذلك البخاري في كتاب الاستسقاء من صحيحه ، وقد قيل : إن صاحب الأذان لا يعرف له غير حديث الأذان والله أعلم ، قاله النووي :

                                                                                                          قوله : ( مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا ) وفي رواية مسلم مضمض واستنشق من كف واحدة ، ففعل ذلك ثلاثا وكذلك وقع في رواية البخاري ، قال النووي : فيه حجة صريحة للمذهب الصحيح المختار أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات ، يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها . انتهى ، وقال الحافظ في الفتح : وهو صريح في الجمع في كل مرة . انتهى .

                                                                                                          [ ص: 101 ] قلت : حديث عبد الله بن زيد هذا دليل صحيح صريح لمن قال إن المستحب في المضمضة والاستنشاق أن يجمع بينهما بثلاث غرفات ، بأن يتمضمض ويستنشق من غرفة ثم يتمضمض ويستنشق من غرفة ثم يتمضمض ويستنشق من غرفة ، وإليه ذهب طائفة من أهل العلم وإليه ذهب الشافعي كما هو المشهور عنه ، وقال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد : وكان هديه صلى الله عليه وسلم الوصل بين المضمضة والاستنشاق كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق من كف واحدة ، فعل ذلك ثلاثا ، وفي لفظ تمضمض واستنثر بثلاث غرفات . فهذا أصح ما روي في المضمضة والاستنشاق ، ولم يجئ الفصل بين المضمضة والاستنشاق ، في حديث صحيح البتة . انتهى . فإن قلت : قال القاري في المرقاة : قوله مضمض واستنشق من كف واحد فيه حجة للشافعي ، كذا قاله ابن الملك وغيره من أئمتنا ، والأظهر أن قوله من كف تنازع فيه الفعلان ، والمعنى مضمض من كف ، وقيد الواحدة احترازا عن التثنية . انتهى .

                                                                                                          وقال العيني في شرح البخاري ص 690 ج 1 : والجواب عما ورد في الحديث فتمضمض واستنشق بكف واحد أنه محتمل لأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد ، ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحد بمياه ، والمحتمل لا يقوم به حجة ، ويرد هذا المحتمل إلى المحكم الذي ذكرنا توفيقا بين الدليلين ، وقد يقال : إن المراد استعمال الكف الواحد بدون الاستعانة بالكفين . انتهى كلام العيني .

                                                                                                          قلت : قوله " صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا " هو ظاهر في الجمع بين المضمضة والاستنشاق ، ولذلك قال ابن الملك وغيره من الأئمة الحنفية : فيه حجة للشافعي ، وقد جاءت أحاديث أخرى صحيحة صريحة في الجمع لا احتمال فيها غيره .

                                                                                                          فمنها : حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وجمع بين المضمضة والاستنشاق ، رواه الدارمي وابن حبان والحاكم وإسناده حسن .

                                                                                                          ومنها : حديث ابن عباس أيضا ، قال توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرف غرفة فتمضمض واستنشق ثم غرف فغسل وجهه ثم غرف غرفة فغسل يده اليمنى رواه النسائي .

                                                                                                          ومنها : حديث ابن عباس أيضا أنه توضأ فغسل وجهه أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنشق ، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا : أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه الحديث ، وفي آخره ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ . رواه البخاري في باب غسل الوجه [ ص: 102 ] باليدين من غرفة واحدة .

                                                                                                          ومنها : حديث علي رواه أبو داود عن عبد خير ، قال رأيت عليا أتى بكرسي فقعد عليه ثم أتى بكوز من ماء فغسل يده ثلاثا ثم تمضمض مع الاستنشاق بماء واحد ، وسكت عنه أبو داود والمنذري ، ورواه النسائي بلفظ : ثم مضمض واستنشق بكف واحد ، وفي آخره " من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره " ولأبي داود الطيالسي في حديث علي : ثم تمضمض ثلاثا مع الاستنشاق بماء واحد ، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر .

                                                                                                          فظهر أن ما ذكره القاري والعيني من التأويل لا يليق أن يلتفت إليه ، ولذلك لم يرض به العيني نفسه حيث قال في شرح البخاري بعدما ذكر من التأويل : وفيه نظر لا يخفى ، والأحسن أن يقال إن كل ما روي من ذلك في هذا الباب هو محمول على الجواز . انتهى .

                                                                                                          وقال بعض العلماء الحنفية في شرحه لشرح الوقاية : وذكر السغناقي في النهاية بعد ما ذكر مستند الشافعي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يتمضمض ويستنشق بكف واحد له عندنا تأويلان :

                                                                                                          أحدهما : أنه لم يستعن في المضمضة والاستنشاق باليدين كما في غسل الوجه ، والثاني : أنه فعلهما باليد اليمنى ، ورده العيني بأن الأحاديث المصرحة بأنه تمضمض واستنشق بماء واحد لا يمكن تأويلها بما ذكره ، انتهى كلام بعض العلماء .

                                                                                                          واعلم أن مذهب الإمام أحمد ومذهب الإمام الشافعي المشهور هو الوصل بين المضمضة والاستنشاق ، وحجتهم حديث عبد الله بن زيد المذكور في الباب ، والأحاديث التي ذكرناها ، ومذهب الإمام أبي حنيفة الفصل بينهما بأن يتمضمض ثلاثا بثلاث غرفات ثم يستنشق كذلك وحجتهم حديث كعب بن عمرو ، قال العيني في عمدة القاري : ص 690 ج 1 وأما وجه الفصل بينهما كما هو مذهبنا فما رواه الطبراني عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده كعب بن عمرو اليامي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا فأخذ لكل واحدة ماء جديدا " وكذا روى عنه أبو داود في سننه وسكت عنه ، وهو دليل رضاه بالصحة ، انتهى كلام العيني .

                                                                                                          قلت : حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده الذي رواه أبو داود في سننه والطبراني في معجمه ضعيف لا تقوم بمثله حجة; لأن في سنديهما ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ، اختلط أخيرا لم يميز حديثه فترك ، وأيضا في سنديهما ، مصرف بن عمرو وهو مجهول ، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص ص 28 أما حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده فرواه أبو داود في حديث فيه : [ ص: 103 ] ورأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ، وقال ابن حبان : كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم ، تركه يحيى بن القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد بن حنبل ، وقال النووي في تهذيب الأسماء : اتفق العلماء على ضعفه . انتهى . وقال في التقريب : صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك . انتهى . وقال : فيه مصرف بن عمرو بن كعب بن عمرو اليامي الكوفي روى عنه طلحة بن مصرف ، مجهول . انتهى .

                                                                                                          والعلامة العيني ذكر حديث الطبراني ولم يذكر سنده بتمامه وسنده هكذا : قال الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا شيبان بن فروخ ثنا أبو سلمة الكندي ثنا ليث بن أبي سليم حدثني طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده كعب بن عمرو اليامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ إلخ ، هكذا في تخريج الهداية للزيلعي .

                                                                                                          واحتج الحنفية أيضا على الفصل بالأحاديث التي وقع فيها لفظ مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا . وأنت تعلم أن هذا اللفظ ليس صريحا فيما ذهبوا إليه من الفصل ، بل هو محتمل فإنه يحتمل أن يكون معناه أنه مضمض ثلاثا بثلاث غرفات أخرى واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات ، ويحتمل أن يكون معناه أنه مضمض واستنشق بغرفة ثم فعل هكذا ، ثم فعل هكذا ، فللقائلين بالوصل أن يجيبوا عن هذا بمثل ما أجاب الحنفية عن حديث عبد الله بن زيد المذكور بأن يقولوا هذا محتمل والمحتمل لا يقوم به حجة ، أو يرد هذا المحتمل إلى الأحاديث المحكمة الصريحة في الوصل المذكورة توفيقا بين الدليلين .

                                                                                                          واحتجوا أيضا بما رواه ابن السكن في صحاحه عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : شهدت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثا ثلاثا ، وأفردا المضمضة من الاستنشاق ، ثم قالا هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ، ذكره الحافظ في التلخيص .

                                                                                                          قلت : ذكر الحافظ هذا الحديث في التلخيص لكنه لم يذكر سنده ولم يبين أنه صحيح أو حسن ، فلا يعلم حال إسناده ، فمتى لم يعلم أنه حسن أو صحيح لا يصلح للاحتجاج ، ولو فرض أن هذا الحديث قابل للاحتجاج وأن الأحاديث التي وقع فيها مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا تدل صراحة على الفصل فيقال : إن الفصل والوصل كلاهما ثابتان جائزان كما قال العلامة العيني : [ ص: 104 ] الأحسن أن يقال : إن كل ما روي من ذلك فهو محمول على الجواز ، وقد تقدم قوله هذا ، وقال العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في سبل السلام : ومع ورود الروايتين بالجمع وعدمه فالأقرب التخيير ، وأن الكل سنة وإن كان رواية الجمع أكثر وأصح . انتهى .

                                                                                                          وقال القاضي أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي : الجمع أقوى في النظر وعليه يدل الظاهر من الأثر ، وقد أخبرنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أحمد القيسي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت له أجمع بين المضمضة والاستنشاق في غرفة واحدة؟ قال نعم .

                                                                                                          فائدة : اعلم أن اختلاف الأئمة في الوصل والفصل إنما هو في الأفضلية لا في الجواز وعدمه ، وقد صرح به الخطيب الشافعي وابن أبي زيد المالكي وغيرهما ، وذكر صاحب الفتاوى الظهيرية : إنه يجوز عند أبي حنيفة أيضا وصل المضمضة بالاستنشاق .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبد الله بن زيد حديث حسن غريب ) حديث عبد الله بن زيد هذا أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، فالظاهر أن يقول : حديث صحيح ( ولم يذكروا هذا الحرف ) أي هذا اللفظ ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد ) بيان لقوله هذا الحرف ( وخالد ثقة حافظ عند أهل الحديث ) يعني والزيادة من الثقة الحافظ مقبولة .

                                                                                                          قوله : ( قال بعض أهل العلم إلخ ) ذكر الترمذي هنا ثلاثة أقوال ، لكن لا يظهر الفرق بين الثاني والثالث فتفكر . ( وقال الشافعي إن جمعهما في كف فهو جائز وإن فرقهما فهو أحب ) جاء عن الشافعي في هذه المسألة قولان : أحدهما كقول أبي حنيفة وهو الذي نقله الترمذي هاهنا ، والثاني أن يتمضمض بغرفة ويستنشق بها ثم هكذا ثم هكذا ، وهذا هو المشهور عنه ، قال العيني في عمدة [ ص: 105 ] القاري ص 690 ج 1 : روى البويطي عن الشافعي أن يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق ، وفي رواية غيره عنه في الأم : يغرف غرفة يتمضمض بها ويستنشق ثم يغرف غرفة يتمضمض بها ويستنشق ثم يغرف ثالثة يتمضمض بها ويستنشق فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق . واختلف نصه في الكيفيتين فنص في الأم وهو نص مختصر المزني : أن الجمع أفضل ، ونص البويطي أن الفصل أفضل ، ونقله الترمذي عن الشافعي ، قال النووي : قال صاحب المهذب : القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي وهو أكثر في الأحاديث الصحيحة . انتهى كلام العيني .




                                                                                                          الخدمات العلمية