الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل [ ص: 239 ] ( وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب الخمر ، إن أكره على ذلك بحبس أو ضرب أو قيد لم يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه ، فإذا خاف على ذلك وسعه أن يقدم على ما أكره عليه ) وكذا على هذا الدم ولحم الخنزير ، لأن تناول هذه المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها ، ولا ضرورة إلا إذا خاف على النفس أو على العضو ، حتى لو خيف على ذلك بالضرب وغلب على ظنه يباح له ذلك ( ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به ، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم ) [ ص: 240 ] لأنه لما أبيح كان بالامتناع عنه معاونا لغيره على هلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة . وعن أبي يوسف أنه لا يأثم لأنه رخصة إذ الحرمة قائمة فكان آخذا بالعزيمة . قلنا : حالة الاضطرار مستثناة بالنص وهو تكلم بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم فكان إباحة لا رخصة إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة ، لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو في دار الحرب . .

[ ص: 238 ]

التالي السابق


[ ص: 238 ] فصل )

قال أكثر الشراح : لما ذكر حكم الإكراه الواقع في حقوق العباد شرع في بيان حكم الإكراه الواقع في حقوق الله تعالى [ ص: 239 ] وقدم الأول لأن حق العبد مقدم لحاجته انتهى .

أقول : فيه كلام ، وهو أنه قد ذكر في هذا الفصل حكم الإكراه الواقع في حقوق العباد أيضا كما في مسألة الإكراه على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من أعضائه ، وكما في مسألة الإكراه بقتل على قتل غيره فلم يتم ما ذكروه بالنظر إلى مثل ذلك ، فالأشبه ما ذكره صاحب غاية البيان حيث قال : إنما فصل بفصل لأن ما تقدم مما يحل فعله قبل الإكراه ، ومسائل الفصل ليست كذلك لأنها محظورة قبل الإكراه في حالة السعة ( قوله حتى لو خيف على ذلك بالضرب وغلب على ظنه يباح له ذلك إلخ ) أقول : في قوله يباح له ذلك إشكال ، فإن المباح ما استوى طرفا فعله وتركه كما تقرر في علم الأصول ، وفيما نحن فيه إذا خيف على النفس أو على العضو كان طرفا الفعل راجحا بل فرضا كما صرح به في كتب الأصول ، فإطلاق المباح على ذلك مع كونه منافيا لما تقرر عندهم في تفسير معنى المباح مخالف لما صرحوا به في كتب الأصول من كون ذلك فرضا لذلك فتأمل ( قوله ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به ، فإن صبر حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم ) قال في العناية : فإن قيل : إضافة الإثم إلى ترك المباح من باب فساد الوضع وهو فساد .

فالجواب أن المباح إنما يجوز تركه ، والإتيان به إذا لم يترتب عليه محرم ، وهاهنا قد ترتب عليه قتل النفس المحرم فصار الترك حراما ، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام انتهى .

أقول : في الجواب بحث ، لأنه إن أريد به أن المباح هاهنا حال كونه مباحا صار تركه حراما لإفضائه إلى الحرام فهو ممنوع جدا ؟ كيف والمباح ما استوى طرفا فعله وتركه وما صار طرف تركه حراما لا يستوي طرفاه قطعا ، فلو صار تركه حراما حال كونه مباحا لزم اجتماع استواء الطرفين وعدمه في محل واحد في حالة واحدة وهو محال وإن أريد به أن ما كان مباحا في حالة قد يصير تركه حراما في حالة أخرى لعلة تقتضي ذلك فينقلب واجبا فهو مسلم ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأن نحو أكل الميتة وشرب الخمر إنما كان مباحا حالة الاضطرار دون حالة الاختيار كما صرحوا به . ولا شك أن [ ص: 240 ] صيرورة تركه حراما إنما هي في حالة الاضطرار أيضا ، إذ في حالة الاختيار يصير تركه واجبا قطعا فلزم أن تجتمع إباحته وحرمة تركه في حالة واحدة ، فلا يتصور الانقلاب من الإباحة إلى الوجوب بحسب الحالتين فيما نحن فيه .

لا يقال : سبب استواء الطرفين فيما نحن فيه هو الإباحة الأصلية حيث لم يتناوله النص المحرم باستثناء حالة الاضطرار ، وسبب حرمة الترك فيه المستلزمة لعدم استواء الطرفين إنما هو إفضاء الترك فيه إلى قتل النفس المحرم أو إلى قطع العضو المحرم ، فلا استحالة في اجتماع استواء الطرفين وعدم استوائهما فيه في حالة واحدة لأنا نقول : استواء الطرفين وعدم استوائهما متناقضان قطعا ، فيستحيل اجتماعهما في شيء واحد في حالة واحدة ، سواء كانا مستندين إلى سبب واحد أو إلى سببين ، ونظير هذا ما حققه الفاضل الشريف في شرح المواقف في مباحث العلة والمعلول ، فإنه لما استدلوا على أن الواحد بالشخص لا يعلل بعلتين مستقلتين بأنه لو علل بهما لكان محتاجا إلى كل واحدة منهما ومستغنيا عن كل واحدة منهما في زمان واحد .

قال : لا يقال منشأ الاحتياج إلى كل واحدة منهما هو عليتها له ، ومنشأ عدم الاحتياج إليها علية الأخرى له فلا استحالة في اجتماعهما . لأنا نقول : احتياج الشيء إلى آخر في وجوده وعدم احتياجه إليه فيه متناقضان ، فلا يجتمعان سواء كانا مستندين إلى سبب واحد أو إلى سببين انتهى كلامه .

فقد ظهر بما قررناه ما في كلام بعض الفضلاء أيضا في هذا المقام فلينظر إليه وليتأمل فيه ( قوله إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة ) قال تاج الشريعة : هذا جواب إشكال كأنه يقول : إذا ثبت إباحته ينبغي أن لا يأثم ، إذ الإنسان لا يأثم بترك المباح . فأجاب عنه بأنه يأثم إذا علم بالإباحة ولم يأكل حتى تلف لأنه يصير ساعيا في إتلاف نفسه انتهى ، واقتفى أثره الشارح العيني .

أقول : لا يخفى على ذي فطرة سليمة أن كلام المصنف هذا لا يصلح أن يكون جوابا عن ذلك الإشكال ، إذ لا ممانعة للعلم في أن لا يأثم الإنسان بترك المباح ، فإن المباح من حيث إنه مباح لا يأثم الإنسان بتركه وإن علم إباحته ، بل بالعلم بإباحته ينكشف عدم الإثم في تركه ، فكيف يحصل الجواب بقوله إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في هذه الحالة عما يقال إذا ثبت إباحته ينبغي أن لا يأثم ، إذ الإنسان لا يأثم بترك المباح ، فالوجه أن قول المصنف هذا إنما هو لبيان [ ص: 241 ] أن الحكم بالإثم على تقدير الصبر ، وترك الأكل في مسألتنا هذه ليس على إطلاقه ، بل فيما إذا علم بالإباحة في هذه الحالة .

وأما إذا لم يعلم بها فلا إثم عليه في تركه لكونه معذورا بالجهل في أمثال هذا بناء على الخفاء




الخدمات العلمية