الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 91 ] المسألة السادسة : الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم : سهمان لفرسه ، وسهم لنفسه ، وأن الراجل يعطى سهما واحدا ، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك ، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه ، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جعل للفرس سهمين ، ولصاحبه سهما " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولفظ مسلم ، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين ، وللرجل سهما " اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وأكثر الروايات بلفظ : " وللرجل " ، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا ، وبذلك فسره راويه نافع ، قال البخاري في " صحيحه " في غزوة خيبر : قال : فسره نافع ، فقال : إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم ، فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ . وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهما له ، وسهمين لفرسه " .

                                                                                                                                                                                                                                      حدثنا أحمد بن حنبل ، ثنا أبو معاوية ، ثنا عبد الله بن يزيد ، حدثني المسعودي ، حدثني أبو عمرة عن أبيه ، قال : " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ، ومعنا فرس ، فأعطى كل واحد منا سهما ، وأعطى الفرس سهمين " .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ، وحسين بن ثابت ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وابن جرير ، وأبي ثور .

                                                                                                                                                                                                                                      وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - الجمهور ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم ; محتجا بما جاء في بعض الروايات : " أنه صلى الله عليه وسلم ، قسم يوم خيبر للفارس سهمين ، وللراجل سهما " رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن ، ويجاب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين اللذين استحقهما بفرسه ، كما يشعر به لفظ الفارس .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 92 ] الثاني : أن النصوص المتقدمة أصح منه ، وأولى بالتقديم ، وقد قال أبو داود : حديث أبي معاوية أصح ، والعمل عليه ، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال : ثلاثمائة فارس ، وكانوا مائتي فارس اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النووي في " شرح مسلم " : لم يقل بقول أبي حنيفة هذا أحد ، إلا ما روي عن علي ، وأبي موسى اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد ، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والحسن ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد ، وقال الأوزاعي والثوري ، والليث ، وأبو يوسف : يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، ويروى عن الحسن ، ومكحول ، ويحيى الأنصاري ، وابن وهب ، وغيره من المالكيين .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس " ، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، أن يسهم للفرس من سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، فذلك خمسة أسهم ، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب ، رواهما سعيد بن منصور ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا أيضا بأنه محتاج إلى الفرس الثاني ; لأن إدامة ركوب واحد تضعفه ، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني ; لأنه محتاج إليه كالأول ، بخلاف الثالث فإنه مستغن عنه ، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين ، إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى ، قاله النووي في " شرح مسلم " ، وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب ، وممن قال به مالك ، والشافعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، ونسبه الزرقاني في " شرح الموطأ " للجمهور ، واختاره الخلال ، وقال : رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد ، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في الموطأ ، قال : لا أرى البراذين والهجن ، إلا من الخيل ; لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عز وجل : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] [ ص: 93 ] فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال سعيد بن المسيب ، وسئل عن البراذين : هل فيها من صدقة ؟ قال : وهل في الخيل من صدقة ؟ اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فهما داخلان في عمومه ; لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثاني : أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس ، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في " الأم " وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي ، قال : أغارت الخيل فأدركت العراب ، وتأخرت البراذين ، فقام ابن المنذر الوادعي ، فقال : لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك ، فبلغ ذلك عمر فقال : هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به ! أمضوها على ما قال ، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      ومنا الذي قد سن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا منقطع كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود في المراسيل ، وسعيد بن منصور ، عن مكحول : " أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر ، وعرب العربي ، فجعل للعربي سهمين ، وللهجين سهما " ، وهو منقطع أيضا كما ترى ، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتجوا أيضا بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الثالث : التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب ، فيسهم له كسهامها ، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له ، وبه قال ابن أبي شيبة ، وابن أبي خيثمة ، وأبو أيوب ، والجوزجاني .

                                                                                                                                                                                                                                      ووجهه أنها من الخيل ، وقد عملت عملها فوجب جعلها منها .

                                                                                                                                                                                                                                      القول الرابع : لا يسهم لها مطلقا ، وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قدامة في " المغني " : ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق [ ص: 94 ] منها ، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى ، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب : إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا ، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها ، فكتب إليه : تلك البراذين فما قارب العتاق منها ، فاجعل له سهما واحدا ، وألغ ما سوى ذلك . اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      والبراذين : جمع برذون ، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة ، والمراد : الجفاة الخلقة من الخيل ، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية .

                                                                                                                                                                                                                                      والهجين : هو ما أحد أبويه عربي ، وقيل : هو الذي أبوه عربي ، وأما الذي أمه عربية فيسمى المقرف ، وعن أحمد : الهجين البرذون ، ويحتمل أنه أراد في الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      وما هند إلا مهرة عربية     سليلة أفراس تحللها بغل
                                                                                                                                                                                                                                      فإن ولدت مهرا كريما فبالحرى     وإن يك إقراف فما أنجب الفحل

                                                                                                                                                                                                                                      وقول جرير : [ الوافر ]

                                                                                                                                                                                                                                      إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب واختلف العلماء فيمن غزا على بعير ، هل يسهم لبعيره ؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل ، قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل ، كذلك قال الحسن ، ومكحول ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم " بدر " سبعون بعيرا ، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل ، هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ، ولو أسهم لها لنقل ، وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك ، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر ، فلم يسهم له كالبغل والحمار ، اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : من غزا على بعير ، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان ، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس ، وعن أحمد : أنه يسهم [ ص: 95 ] للبعير سهم ، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ، وحكي نحو هذا عن الحسن ، قاله ابن قدامة في " المغني " .

                                                                                                                                                                                                                                      واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب [ 59 \ 6 ] ، قالوا : فذكر الركاب وهي الإبل مع الخيل ، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس ; لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء ، هي : النصل ، والخف ، والحافر ، دون غيرها ; لأنها آلات الجهاد ، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها ، تحريضا على رياضتها ، وتعلم الإتقان فيها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله أعلم - أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفا ، وأما غير الخيل والإبل ، من البغال والحمير والفيلة ونحوها ، فلا يسهم لشيء منه ، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قدامة : ولا خلاف في ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك ، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية