الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون

هذه الآية تتضمن وعيدا للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية قال: ومن يؤمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك؟ وهذا استفهام على جهة التوقيف.

[ ص: 8 ] والبأس: العذاب، و"بياتا" نصب على الظرف، أي وقت مبيتهم بالليل، ويحتمل أن يكون هذا في موضع الحال.

وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر : "أوأمن" بسكون الواو وإظهار الهمزتين، وقرأ ورش عن نافع : "أوامن" بفتح الواو وإلقاء حركة الهمزة الثانية عليها، وهذه القراءة في معنى الأولى ولكنها سهلت. وقرأ عاصم وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : "أو أمن" بفتح الواو وإظهار الهمزتين، ومعنى هذه القراءة: أنه دخل ألف الاستفهام على حرف العطف، ومعنى القراءة الأولى: أنه عطف بـ"أو" والتي هي لأحد الشيئين، والمعنى: أفأمنوا هذا أو هذا؟ كما تقول: "أجاء زيد أو عمرو "؟ وليست هذه "أو" التي هي للإضراب عن الأول، كما تقول: "أنا أقوم أو أجلس" وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره، وقولنا: التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير، كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين ، أو قولك: جالس الحسن أو جالس ابن سيرين ، وقوله يلعبون يريد: في غاية الغفلة والإعراض.

و مكر الله هي إضافة مخلوق إلى خالق، كما تقول: ناقة الله، وبيت الله، والمراد فعل يعاقب به مردة الكفار، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب، فإن العرب تسمي العقوبة -على أي وجه كانت- باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله تعالى: ومكروا ومكر الله وهذا الموضع أيضا، كأن كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف. وقيل: عومل -في مثل هذا وغيره- اللفظ دون المعنى في مثل قوله تعالى: الله يستهزئ بهم و"إن الله لا يمل حتى تملوا" وغير ذلك.

[ ص: 9 ] وقوله تعالى: أولم يهد للذين يرثون الأرض الآية. هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف، و"يهدي" معناه: يبين ويوضح، والهدى: الصباح، وأنشدوا على ذلك:

حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة ... يسبحن في الآل غلفا أو يصلينا

ويحتمل أن يكون المبين الله تعالى، ويحتمل أن يكون المبين قوله: أن لو نشاء أي علمهم بذلك. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : و "يهدي" معناه: يتبين، وهذه أيضا آية وعيد، أي: ألم يظهر لوارثي الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم، وكنا نطبع: أي نختم عليها بالشقاوة، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم، وتعديد النعمة عليهم فيما ورثوا، والوعظ بحال من سلف من المهلكين. ونطبع عطف على ( أصبنهم ) إذ المراد به الاستقبال، ويحتمل أن يكون و"نطبع" منقطعا إخبارا عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به، ويبقى التوعد بالإهلال الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه، وقرأ أبو عمرو : و"نطبع على" بإدغام العين في العين وإشمام الضم، ذكره أبو حاتم .

التالي السابق


الخدمات العلمية